وإذن فلا يمكن الكلام عن صفة «الكلية» في الحوادث الطبيعية إلا على سبيل التمثيل، أما الطبيعة في مجموعها فليست كلا بالمعنى المألوف؛ إذ إنها لا متناهية تفتقر إلى الوحدة الجامعة، واللامتناهي لا يمكن أن يكون بطبيعته ديالكتيكيا.
ولننتقل إلى مبدأ أو «قانون» آخر من قوانين الديالكتيك، وهو التناقض أو التعارض الداخلي، هذا القانون لو طبق على العمليات الطبيعية لكان له معنى مختلف تماما عن معنى الصراع بين القوى التاريخية؛ ففي مجال التاريخ يقوم التعارض بين كل جماعة والأخرى، ويكون وجود كل جماعة - في الوقت ذاته - مرتبطا بوجود الجماعة المتعارضة معها، وتركيبها الباطن يفترض هذا التعارض مقدما، أما في مجال الطبيعة فإن هذا التعارض بين القوى - إذا وجد - لا يكون جزءا من تركيب القوى المتعارضة، ولا يمكن في هذا الصدد الكلام عن «سلب» إلا من وجهة نظرنا نحن. وإذن فمعنى التناقض ذاته مختلف تماما في الحالتين، وهو لا يوجد في الطبيعة إلا بمعنى مجازي أو تشبيهي فحسب.
وهكذا يمكن القول إن قوانين الديالكتيك بأسرها - وهي قانون «الكلية» ونفي النفي، وتداخل الأضداد ووحدتها، والانتقال من الكم إلى الكيف - يختلف معناها اختلافا أساسيا في مجال الطبيعة عنه في مجال التاريخ، وليس لنا أن نحكم مقدما بأن الطبيعة تنطبق عليها مبادئ أو قوانين ديالكتيكية معينة، بل إن هذا متروك للعلماء أنفسهم؛ فعلى قدر كشوف العلماء نستطيع أن نتحدث عن وجود هذه القوانين في الطبيعة أو عدم وجودها، ومن الواضح أننا كلما بعدنا عن المجال البشري، كان تطبيق هذه المبادئ أكثر تعسفا، وكان من المستحيل أن ننسب إليها نفس طابع اليقين الذي نستطيع أن نعزوه للصيغ الديالكتيكية في ذلك المجال الذي شاركنا في صنعه إيجابيا، مجال التاريخ البشري. وهكذا فإن القول بوجود ديالكتيك تاريخي في مجال كالجيولوجيا أو في علم الفلك، لا يعدو أن يكون تشبيها بلاغيا فحسب، وليست محاولة فرض هذه القوانين مقدما على الطبيعة إلا نوعا من اللاهوت الذي ظهرت فكرة ديالكتيك الطبيعة أصلا لمحاربته؛ ذلك لأن تأكيد وحدة الكون، ووجود اتصال واستمرار بين مجال الطبيعة ومجال الإنسان، على نحو لا يسمح بوجود الهوة المفاجئة التي تبرر فكرة «الخلق الإلهي»، هذا التأكيد الذي كان يهدف أصلا إلى سد الطريق أمام كل تدخل لاهوتي؛ قد أدى إلى نتيجة مشابهة لتلك التي أراد تجنبها؛ إذ إننا في هذه الحالة نستعيض عن الفاعلية الإلهية بقانون كوني شامل تام الدقة، يخلق من المادة كل الصور التي يمكن أن نصادفها، وهذا - بتعبير سارتر - «لاهوت جديد؛ إذ لا يمكن أن يعرف وجود قانون كهذا سوى إله، ولا يمكن أن يكون قد خلقه سوى إله.»
الموقف الماركسي
ليس صحيحا - في رأي الماركسيين - أن فكرة ديالكتيك الطبيعة إنما هي تطبيق تال لفكرة نجحت في المجال البشري على مجالات أخرى غريبة عنه، وإنما الصحيح أن فكرة وجود ديالكتيك للطبيعة أسبق - في تاريخ الفكر البشري - من التعبير الواعي عنها في القرن التاسع عشر بكثير؛ فمن الممكن القول إن بذورها قد ظهرت لدى الفلاسفة السابقين على سقراط - ولا سيما هرقليطس - ثم تأكد ظهورها في كل تقدم أحرزه العلم منذ عصر النهضة، فاتجاه العلم في العصر الحديث يؤكد لنا مجموعة من المبادئ الرئيسية التي تشترك فيها العلوم جميعا، وهي: (أ)
أن كل سكون أو قصور ذاتي
inertie
إنما هو أمر نسبي، وأن كل شيء يتحرك ويتحول. (ب)
وأن هذه الحركة ليست مجرد إعادة ترتيب لعناصر ثابتة، وإنما هي حركة تتضمن ظهور الجديد؛ فهي ليست مجرد إضافة، وإنما تكشف عن تركيبات يكون الكل فيها مغايرا لمجموع العناصر المكونة له وزائدا عنها. (ج)
وهذا الظهور للجديد يتيح تحديد تاريخ الأشياء وعمرها، لا في حالة الكائنات الحية فحسب، بل في حالة الجوامد أيضا؛ فللطبيعة كلها تاريخ.
अज्ञात पृष्ठ