لقد كان للمذهب الفلسفي عند هيجل بناء مذهل من حيث شموله وإحكام الانتقال من كل خطوة إلى الخطوة التالية فيه؛ فمن الروح كما هي في ذاتها وفي تجردها - أي من المنطق - ينتقل البحث إلى الروح كما تصبح موضوعية في فلسفة الطبيعة، ثم إلى الروح كما تعود إلى ذاتها في فلسفة الروح، وفي داخل كل مظهر من هذه المظاهر يتحرك الفكر على نفس النحو المحكم، ولو أخذنا فلسفة الروح وحدها كمثال لوجدناها تبدأ بالأنثروبولوجيا (بالمعنى القديم لهذا اللفظ قبل أن يصبح دالا على علم اجتماعي متخصص)، وهي دراسة الإنسان على نحو لا يخلو من التأثر بالطبيعة كما هي الحال في علم النفس، ثم تنتقل إلى دراسة الظواهر الاجتماعية بوصفها درجة أعلى من درجات تجلي الروح، بالقياس إلى الظواهر النفسية الفردية، فتبدأ بالقانون الذي هو في أساسه علاقة خارجية للإنسان بمجتمعه، طابعها سلبي في الأساس، وتنتقل إلى الأخلاق التي هي الإرادة الباطنة حين تحفظنا على إطاعة قوانين المجتمع، والتي تتجلى أولا في حياة الأسرة ثم المجتمع المدني ثم الدولة، وهي أعلى مظاهر الروح الموضوعية، وينتقل الفكر بعد ذلك إلى الروح المطلقة، وتتمثل أولا في الفن ثم الدين وأخيرا الفلسفة.
في كل مرحلة من هذه المراحل يكتب هيجل كتابة تفصيلية متعمقة تستحق أن تعامل على أن لها قيمتها الذاتية الكامنة، بغض النظر عن قيمتها داخل المذهب المتكامل، وفي كل ما يكتبه هيجل يتخذ تفكيره طابعا موسوعيا ينم عن قدرة مذهلة على الاطلاع والاستيعاب والإحاطة الشاملة، ولكن هذه الإحاطة الشاملة هي بعينها - في نظر الكثيرين - موطن الضعف عند هيجل، فهل يستطيع عقل واحد - مهما بلغ تعمقه - أن يحيط بكل ما أنتجته الروح البشرية، أو حتى أن يدرك اتجاه هذه النواتج وحركتها وعلاقاتها وروابطها؟ ألا يؤدي شمول المذهب نفسه إلى الحكم عليه بالجمود والموت؟ إن «المذهب» حين يحاول أن يدرج في داخله كل مظاهر فاعلية الروح - من منطق وعلم طبيعي وأخلاق وتاريخ وسياسة وفن ودين وفلسفة - يحكم على هذه المظاهر ذاتها بالجمود؛ لأنه يفسرها جميعا من خلال وضعها الحاضر، كما لو كان ذلك الحاضر وضعا نهائيا لا يتسع لأي جديد، ولكن إذا كان الحاضر ذاته مجرد مرحلة في حركة لا نهائية، ألا يؤدي ذلك إلى زعزعة أركان المذهب، لا لأنه يجمد الحاضر فحسب، بل أيضا لأنه يفسر الماضي من منظور الحاضر بوصفه غايته وهدف تطوره، مع أن هذا المنظور بدوره متحرك، وسرعان ما يتجاوزه ويطغى عليه تيار التطورات اللاحقة؟
لقد أدت هذه الصعوبة ببعض شراح هيجل إلى أن يحكموا على فلسفته كما لو كانت بناء عقليا أروع ما فيه هو ذلك التناسق الذي تكشف عنه حركته المعمارية، أما المضمون الفكري ذاته فقد أضفوا عليه قيمة نسبية لا تعادل أبدا قيمة البناء المحكم؛ ففي رأيهم أن أعظم ما قدمه هيجل ليس معالجته المنفصلة لكل موضوع من الموضوعات التي يضمها «المذهب» على حدة - برغم ما تتسم به هذه المعالجة من عمق - وإنما هو ذلك التماسك والترابط، وتلك الدراما الحية المتطورة التي عرض هيجل فصولها المتتابعة في المذهب ككل. وخلاصة القول أن تناسق الحركة أعظم - في نظر البعض - من العناصر الثابتة التي تتحقق هذه الحركة فيما بينها.
ولكن ربما كان التعبير الأدق عن هذه المشكلة هو ذلك التضاد المعروف الذي وضعه تلاميذ هيجل - بعد وفاته مباشرة - بين «المذهب» و«المنهج»؛ فعلى حين أن كل ما في المذهب يوحي بأن البناء مكتمل لا يتسع للجديد، وبأن الدائرة قد أغلقت بإحكام في نهاية الرحلة الممتعة التي يقودنا فيها هيجل من الروح المجردة إلى الروح المطلقة، مارا بالروح الموضوعية، فإن المنهج نفسه - أعني «الديالكتيك» الهيجلي المشهور - يوحي بحركة دائمة وصيرورة مستمرة لا يقف في وجهها شيء؛ ففكر هيجل يتسم بتوتر حاد بين الحركة الدينامية متمثلة في الديالكتيك، في المسار الذي لا يتوقف لكل ما هو موجود، في الصيرورة التي يحمل بمقتضاها كل شيء نقيضه في داخله، في السلب الذي يكمن في قلب كل إيجاب، في الآخرية التي ينبغي الإحالة إليها من أجل فهم أية ظاهرة نتصور أنها منعزلة متفردة، وبين الإحساس بالاكتمال الذي يسري في المذهب من بدايته إلى نهايته.
إن المذهب لا يمكن أن يوضع إلا «من أعلى»؛ فالعقل الذي يضع المذهب لا بد أن يكون عقلا أدرك حركة الكل، وتأملها في شمولها، واستبانت له الخيوط الجامعة بين مظاهر الروح جميعا، من أبسط تجلياتها حتى أشدها تعقيدا. هذا العقل الذي يضع المذهب، يضع ذاته خارج المذهب، أعني خارج حركته الديالكتيكية، وخارج التناقض والسلب الذي يسري على كل وجود، إنه عقل أحاط بالكل وأدرك الإطار الذي تندرج فيه كل عناصر ذلك الكل، والنقطة المركزية التي تتلاقى عندها كل خيوطه، والتي لا يفسر تطورها كله إلا من خلالها، ولولا هذه القدرة الشاملة لما أمكن أن يتسم المذهب بالاكتمال والتناسق، ولما أمكن أن يسري ذلك النبض المنتظم - أعني إيقاع الحركة الديالكتيكية - في كل التخطيطات العامة للمذهب، بل في كل فروعه وفروع فروعه، كل ذلك يعطينا إحساسا بالاكتمال، وبأن الصورة العامة قد اتضحت وانتهى الأمر، وبأن العقل المفكر قد تكشف له كل شيء؛ لأنه يقف عند «نهاية الطريق»، وعند القمة العليا التي يتوقف عندها كل مسار.
هذا التوتر بين الإحساس بالحركة الدائمة، والنقص المستمر الذي يحتاج إلى تعويض وتجاوز و«رفع»، وبين الإحساس بالاكتمال والانتهاء، هو صفة من أبرز صفات الفلسفة الهيجلية، إنه التوتر بين فلسفة تنظر إلى الأمور في نموها وتقدمها إلى مراحل أعلى وأعقد، وفلسفة تتأمل الظواهر بنظرة راجعة، بعد أن تكون قد كشفت حقيقتها وغايتها، وسيظل من الأمور التي تثير جدلا لا نهاية له بين قراء هيجل وشراحه، البحث فيما إذا كان في تفلسفه يتطلع إلى الأمام ليفتح الطريق أمام أحداث جسام توشك أن تقع، أم ينظر إلى الخلف ليفسر الماضي كله في ضوء حقيقة بدت له نهائية، هي حقيقة الحاضر؟
وبين طرفي هذا التوتر يتحدد موقف عصرنا من هيجل، فإذا تأملناه من وجهه الدينامي المتحرك، كانت روح هيجل لا تزال سارية فينا، معبرة عن نزوع عصرنا إلى التطور، وإلى الثورة على كل وضع متجمد متحجر، وإذا نظرنا إليه من وجهه المكتمل، الذي يجمد المعرفة في بؤرة ثابتة، ويحقق الفكرة المطلقة في عصره؛ لبدا في نظرنا - على أحسن الفروض - فيلسوفا ميتافيزيقيا وسط مجموعة كبيرة من نظرائه الذين جعل كل منهم من عصره - بل من عقله - مركزا للكون؛ فمن بعد هيجل ظل التاريخ مستمرا، وظلت المتناقضات قائمة، بل لقد ازدادت حدة، وتغيرت صورة العالم، واتخذت نواتج الروح أشكالا مختلفة كل الاختلاف؛ فالفن السائد في عصره أصبح فنا تاريخيا تجاوزه التطور بمراحل، والنظرة السائدة إلى الدين قد اختلفت، أما الفلسفة فقد تعددت مذاهبها، واتخذت وجهات جديدة غير متوقعة. كل شيء إذن - حتى في ميدان الروح - ما زال نابضا بالحياة والحركة والتغير، فإذا كان في ذلك تكذيب «للمذهب»، ففيه ولا شك دعم وتأكيد لصحة «المنهج».
فما هو إذن مصدر حيوية هذا المنهج ؟ وما الذي يجعله قادرا على تأكيد ذاته، حتى من خلال التطورات التي يبدو أنها تنكره؟ إن الديالكتيك الهيجلي هو - قبل كل شيء - طريقة في التفكير، وفي النظر إلى الظواهر من خلال ارتباطها بعضها ببعض، إنه باختصار شديد طريقة التفكير التي تلغي الحواجز بين الجزئيات المنفردة، وتدرك أن فهم أية جزئية على حدة إنما يكون من خلال علاقاتها المعقدة بالجزئيات الأخرى، وبالكل الذي تندرج فيه، على أن هذه النظرة قد تتخذ طابعا سكونيا، كما هي الحال مثلا في منهج «الجشطلت» المشهور في علم النفس، أما عند هيجل فإن أساسها هو فكرة الحركة والدينامية والتطور؛ فالعلاقات التي تفهم من خلالها كل ظاهرة جزئية، ليست فقط علاقاتها بالظواهر الأخرى التي تتزامن معها، وإنما علاقاتها بالمجرى الكامل الذي تطورت فيه حتى وصلت إلى طابعها الراهن.
هذا المنهج يشيع وصفه بأنه منهج ثلاثي الإيقاع؛ أي إنه ينتقل من الوضع
thesis
अज्ञात पृष्ठ