ومن العسير جدا أن أتحدث إليكم ساعة كاملة عن الحياة العادية لهذا الفيلسوف «تين» كما تحدثت إليكم عن «فولتير» أو «جان جاك» أو «رينان»، فأنا إذن سأحدثكم حديثا علميا ولكن أخشى أن يكون جافا بعض الشيء؛ لأني سأتحدث إليكم عن مذهبه أو مذاهبه في العلم والفلسفة والتاريخ والأدب، إذن فالحديث غير رائق ولا مريح وقد يدعو إلى تفكير وإلى تأمل، وأظن أن التفكير العميق، والتأمل بعد الإفطار وفي رمضان ليسا من الأشياء التي يستريح إليها الناس كثيرا، فقد أرادت الظروف أن يكون الحديث عن «تين» في هذا الوقت.
ولد تين في أواسط القرن التاسع عشر بالضبط سنة 1828م، بعد رينان بنحو خمسة أعوام، ونشأ في شمال فرنسا، في أسرة من الطبقة الوسطى أيضا كغيره من الفلاسفة الذين تحدثت إليكم عنهم، كان أبوه موثقا كما كان أبو فولتير موثقا أيضا، وكان من أسرة بروتستانتية، وقد بدأ حياته كغيره من شبان الطبقة الوسطى في مدرسة من المدارس العادية في موطنه، ثم انتقل إلى باريس فأتم دراسته الثانوية هناك، ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى كان قد أتم هذه الدراسة، ثم تقدم في التحصيل واستطاع أن يدخل مدرسة المعلمين العليا، ومدرسة المعلمين في ذلك الوقت أرقى مدرسة في فرنسا للدراسة العلمية والأدبية والفلسفية أيضا، وهي المدرسة التي أخرجت لفرنسا في القرن الماضي - وما تزال تخرج لها حتى الآن - أدباءها وفلاسفتها وشعراءها وكتابها ووزراءها أيضا، في هذه المدرسة اتصل تين بجماعة من كبار الأساتذة الفرنسيين، وجماعة من الطلاب الذين كان لهم أعظم الأثر في حياة فرنسا في النصف الثاني من القرن الماضي.
أتم تين دراسته في نحو سنة 1851 وتقدم للامتحان الذي يتقدم إليه عادة طلاب هذه المدرسة، امتحان الأجريجاسيون وهو امتحان الأستاذية للثانوي، ولكنه لم ينجح، ثم ترك المدرسة واشتغل بالتعليم في بعض الكليات في الأقاليم، وبعد ذلك بنحو سنة أو أكثر بقليل كان في فرنسا الانقلاب الذي أحدثه نابليون الثالث، وكان أول أثر لهذا الانقلاب في الحياة العقلية الفرنسية أن ساء الظن بين الجامعة والحكومة، وأساءت الحكومة رأيها في الجامعة إلى أقصى حد، وفرضت سلطانها عليها، وتتبعت أساتذتها بالمراقبة فيما يقولون وفيما يفعلون، واجتهدت في أن تبعد عن التدريس من يظهر في دروسه أو في سيرته أنه محب للحرية أو مؤيد لها أو داع إليها أو عاطف على النظام القديم نظام الجمهورية، أو مناصر للثورة الفرنسية، وكان تين من هؤلاء فأبعد عن نفير ونقل إلى مكان آخر، فأخذ يعلم فأحس نفس الضغط الذي أحسه في كليته الأولى، واضطر إلى أن يطلب إلى وزارة المعارف أن تمنحه إجازة طويلة، فأسرعت إلى ما كان يريد فتخلصت منه، وتخلص هو منها أيضا، ومنذ ذلك الوقت انقطع تين لشيئين: الدراسة العلمية الخالصة من ناحية، والأسفار والتجول من ناحية أخرى، وانقطع للبحث والتأليف، وفي سنة 1852 تقدم إلى السوربون برسالة للدكتوراه في الحس فرفضت هذه الرسالة؛ لأنها كانت متأثرة بالآراء الجديدة إلى حد ما.
ثم تقدم برسالة أخرى للدكتوراه فقبلت وظفر بهذه الدرجة الجامعية العليا، وكانت هذه الرسالة قد كتبت عن الشاعر الفرنسي العظيم «لافونتين»، أخذ تين يجوب في أنحاء أوروبا؛ في فرنسا، وإنجلترا، وإيطاليا، وألمانيا، وهولندا، وهو في أثناء هذا كله مشتغل بالبحث والتأليف، يظهر كتابا إثر كتاب، حتى عين بعد أكثر من عشر سنين مدرسا في مدرسة الفنون الجميلة، وأخذ يلقي فيها محاضرات في الفن وفلسفته وتاريخه كما أخذ يكتب في الصحف، ثم كانت الحرب بين فرنسا وألمانيا، وكانت الهزيمة الفرنسية، ثم الثورة أو الحرب المدنية في فرنسا، وكان لهذه الحركات تأثير عميق جدا واضطرته إلى أن يدرس الحياة الفرنسية درسا دقيقا عميقا، فأخذ يطبع كتابه عن أصول فرنسا الحديثة، وكان غرضه أن يدرس الحياة الفرنسية في هذا العصر؛ كيف نشأت؟ وما هي المؤثرات التي دعت هذه الحياة أن تتطور من الثورة الفرنسية أولا، ثم قيام الإمبراطورية، ثم ما حدث بعد ذلك من تطورات إلى أن كانت الحرب والهزيمة؟
ثم مضى تين في حياته هذه لا يكاد ينصرف بحال من الأحوال عن الدرس والبحث وتأليف الكتب والكتابة في الصحف إلى أن مات في أواخر القرن الماضي بعد وفاة رينان بعام واحد سنة 1893.
هذه خلاصة حياة هذا الرجل، وأنتم ترون أنها بسيطة، ليس فيها شيء غريب وليس فيها هذا الاضطراب، ولا هذه التطورات العنيفة التي رأيتموها في فولتير وجان جاك ورينان، ومع ذلك فليس يعرف القرن التاسع عشر رجلا أثر في حياة الشعب الفرنسي، وفي حياته العقلية خاصة كما أثر الفيلسوف تين، كان صديقا لرينان، وكان منازعا لرينان - إن صح هذا التعبير - ينازعه العقل الفرنسي، وعقل الشباب الفرنسي بنوع خاص، تين ورينان هما الأستاذان اللذان خضع الشباب الفرنسي لهما خضوعا تاما نحو ثلاثين عاما من سنة 1860 إلى 1890، أو 1892 أو 1893، على أن بين هذين الصديقين اختلافا عظيما جدا؛ فقد رأيتم عن رينان أنه كان متجها أول أمره إلى حياة رجال الدين يهيئ نفسه لأن يكون قسيسا، وأنه انصرف إلى العلم عن الكنيسة وعن حياة القسس، ثم مضى في حب العلم والفلسفة الدينية، ثم عني بالتاريخ الديني - بتاريخ المسيحية خاصة - إلى أن أنفق حياته، أما تين فلم يفكر مطلقا أن يكون رجلا من رجال الدين، إنما كان تفكيره متجها إلى الحياة العلمية الخالصة، على أنه قد صادف مثل ما صادفه رينان في حياته العلمية الأولى؛ صادف الفلسفة الألمانية في حياته فتأثر بها أشد التأثر، صادف فلسفة هيجل كما صادفها رينان وتأثر بها كما تأثر بها رينان، ولكن يظهر أن تين عني بالعلم التجريبي عناية تفصيلية دقيقة، عناية مباشرة لا كعناية رينان، فقد عرف رينان قيمة العلم التجريبي بواسطة صديقه برتلو، أما تين فإنه عرف قيمة العلم التجريبي وخطره من تجاربه الخاصة، وكان رينان مؤمنا بالعلم يكبره كما كان يكبر الدين حين كان يدرس الدين، ويعتمد عليه في تنظيم حياته الاجتماعية دون أن يعرف تفصيل هذا العلم أو يشارك فيه، وأن يكون له حظ خاص دقيق.
كان تين يشتغل بالعلم بطريقة مباشرة، طريقة تفصيلية دقيقة جدا، كان إذا تحدث عن العلم تحدث عنه وهو عالم به مشارك فيه، وكان يؤمن بالعلم إيمان اجتهاد خالص، على حين كان غيره يؤمن بالعلم إيمانا لا يخلو من التقليد، ومن هنا ظهر الفرق العظيم بين الرجلين في تصور العلم؛ فتين لم يتخذ من العلم دينا، ولم يفهم العلم على أنه مسيطر على الحياة الإنسانية، ولا أنه مصلح لهذه الحياة، ولا صالح لأن يكون دينا للإنسانية كلها، ولا على أن العلماء يستطيعون أن يكونوا كنيسة كما يكون رجال الدين كنيسة؛ نظر إلى العلم على أنه أداة إلى الفهم ليس غير، نظر إلى العلم على أنه وسيلة إلى المعرفة لا أكثر ولا أقل في الوقت الذي كان رينان ينظر إليه على أنه غاية.
بين مزاج هذين الرجلين؛ مزاج رينان الذي لم يستطع إلا أن يكون قسيسا، فقد كان قسيسا دينيا في أول الأمر، ثم أصبح قسيسا علميا بعد ذلك، ثم انتهى إلى أن أصبح قسيسا من قسس الشك في آخر حياته، ومزاج تين الذي لم يكن إلا عالما وعالما بالمعنى الدقيق دائما؛ بين هذين المزاجين اختلاف عظيم هو مظهر الفرق بين الآثار التي تركها رينان والآثار التي تركها تين؛ فالآثار التي تركها رينان - كما رأيتم - أكثرها يمس الدين، فإذا بعد رينان عن تاريخ الدين المسيحي أو الإسرائيلي فإنه يبعد عن هذه الأشياء ليعود إليها مرة أخرى، وكان إذا درس اللغات السامية درسها من حيث هي وسيلة إلى درس تاريخ المسيحيين أو الإسرائيليين، وإذا درس العلم أو نظر فيه، فإنه ينظر إليه على النحو الذي قدمته إليكم، على أنه علم يوشك أن يكون دينا في المستقبل، أما تين فإنه لا يدرس العلم إلا من حيث إنه أداة المعرفة والفهم، وهو إذا كتب فهو يكتب في أشياء لا تتجاوز العلم، وإنما هي العلم نفسه حتى عندما كان يدرس الأدب أو التاريخ.
وأول كتاب أذاعه تين عن لافونتين، وهو الرسالة التي نال بها درجة الدكتوراه، كان في ظاهره كتابا أدبيا، ولكنه في حقيقته بحث فلسفي من أعمق الأبحاث الفلسفية؛ فهو في هذا الكتاب لا يدرس الأدب كما تعود الناس أن يدرسوه، على نحو فيه بحث عن مظاهر الجمال والحسن، وغيرها من هذه المظاهر التي تخلب النفوس وتثير العواطف، إنما يدرس أدب لافونتين على أنه ظاهرة من ظواهر الحياة في عصر لافونتين، كما تدرس الظواهر الكيميائية بالضبط، وهو في مقدمة هذا الكتاب يرى أن الإنسان حيوان ينتج الأدب والفلسفة، كما أن دودة القز تنتج القز، وكما أن الأرض تنتج ما تنتج من نبات، وإذن فيجب أن يدرس هذا الحيوان الذي ينتج الأدب، كما تدرس دودة القز التي تنتج القز، والأرض التي تنتج النبات، وهو من هذه الناحية، يوشك أن يكون ماديا، وهو مسرف في التأثر بالفلسفة وبالعلم إسرافا يوشك أن يكون ماديا، وهو مسرف في التأثر بالفلسفة وبالعلم إسرافا يوشك أن يخرج الأدب عن طوره الذي ألفه الناس؛ فهو عندما يدرس شعر شاعر من الشعراء أو نثر كاتب من الكتاب ليس يعنيه ما سيجده في هذا الشعر من جمال، أو ما سيثيره هذا النثر من العاطفة، إنما الذي يعنيه نفس الشاعر الذي أنتج الشعر والكاتب الذي أنتج النثر، وهو عندما يعنى بنفس الشاعر أو الكاتب، فهو يعنى بالشاعر أو الكاتب من حيث هما فردان من أمة أو جماعة، وهو لا يدرس لافونتين ليذوق شعر لافونتين، إنما يدرس لافونتين وشعره ليفهم البيئة التي عاش فيها، والأمة الفرنسية في العصر الذي نشأ فيه لافونتين.
لأجل أن نفهم المذهب الأدبي لتين لا بد من أن نلم إلمامة قصيرة جدا برأيه في الفلسفة عامة والفلسفة الإنسانية خاصة، لافونتين عند تين ظاهرة يجب أن تدرس كما تدرس غيرها من الظواهر العلمية؛ فلا بد إذن لهذا الدرس من قاعدة ومنهج وهي القاعدة الطبيعية لهذا الفيلسوف، كان تين متأثرا بالفلسفة الألمانية، والفلسفة الفرنسية الوضعية، فلسفة أوجست كونت، وهو منكر قبل كل شيء لحرية الفرد، ولا أريد الحرية السياسية، ولا الحرية الشخصية، إنما أريد الحرية الفلسفية، وهو ينكر الاختيار، ويعتقد أن العالم متأثر بطائفة من القوانين تدبره وتسيره دون أن تعرض هذه القوانين للخطأ أو الاضطراب، فهو إذن من أنصار الجبر، من الذين يعتقدون أن الإرادة الفردية لا تؤثر في حياة العالم بشكل من الأشكال، وقد سمعتم ما قلته لكم من أن تين يرى أن الإنسان ينتج الأدب والفلسفة كما أن دودة القز تنتج القز، وكما أن الأرض تنتج النبات.
अज्ञात पृष्ठ