وكانت مدارس اليسوعيين في ذلك الوقت هي أرقى المدارس في فرنسا، تعلم فيها ديكارت قبل فولتير بزمن طويل، ولم يكد ينتهي فولتير إلى الثامنة عشرة من عمره حتى كان قد أتم تعليمه وأخذ يظهر شخصيته الأدبية واضحة جلية، بل لم يكد يتجاوز العشرين حتى أخرج القصة التمثيلية الأولى من قصصه المسرحية وهي قصة «أوديب».
ولكن فولتير تأثر جدا بالحياة الأدبية، وكان تأثره بها أشد مما كان يريد أبوه؛ فكان يميل إلى الشعر، وكان يميل إلى الدعابة واللهو وحياة الأدباء الفارغة من كل ما يفيد المال ويمكن صاحبه من الكسب المادي؛ فغضب أبوه وأنكر عليه هذا أشد الإنكار وأراد أن يصرفه عن الأدب، وجاهد في ذلك ما استطاع ولكنه لم يوفق، وأراد أن يصرفه إلى صناعة تعود عليه بالفائدة المادية، فاجتهد في أن يلحق ابنه برجل من عظماء فرنسا، وهو سفير فرنسا في هولندا، لعله يتمرن على بعض حياة الجد، وسافر الفتى مع السفير، ولكنه لم يكد يصل إلى لاهاي حتى عرف سيدة فرنسية لها ابنة جميلة خلابة، فاتصل بالسيدة، واتصل بالفتاة، وكان بينه وبين الفتاة خطوب، واشتكت السيدة إلى السفير، واضطر السفير إلى أن يرد هذا الفتى إلى باريس، وهنا حاول الرجل أن يصرف ابنه مرة أخرى عن الأدب، وجد في ذلك، ولكنه لم يوفق حتى انتهى به الأمر إلى أن توصل إلى أن يظفر بأمر بالقبض على هذا الفتى وإرساله إلى السجن، فقبض عليه وأرسل إلى السجن وقضى فيه حينا ثم خرج، وكان أبوه يظن أن هذا التأديب سيصرفه عن الأدب، ولكن ذلك زاده إلحاحا فيه وتمسكا به.
وما زال الفتى يجد في صناعته هذه، وفي حياته الأدبية حتى نجح في التمثيل ثم أخذ يظهر آثارا أدبية تنشر فتلقى نجاحا وأخرى تنشر فتثير غضبا وسخطا، وأبوه ضيق بذلك كاره له حتى انتهى به الأمر إلى أن أصدر أثرا أعجب الملك والملكة، وصدر القرار بأن يخصص له مرتب من القصر، وهنا أحس والد فولتير أن الأدب صناعة لا بأس بها.
على أن فولتير كان أديبا بأدق معاني الكلمة، وأدق معاني الكلمة هنا أنه كان مضطربا لا نظام له في الحياة، يندفع في اللهو إلى أقصى حدوده، وكان صاحب عبث ولهو ما وسعه العبث واللهو، وكان أدبه يقربه إلى الطبقات العليا في فرنسا، ولم يكد يبلغ الخامسة والعشرين حتى كان معروفا في أرقى الطبقات في باريس وخالط الأشراف والنبلاء.
ولكنه كان حاد اللسان حاد الطبع، انتهى به هذا إلى أن أغضب بعض الناس وأحنق عليه بعض النبلاء، فأغرى به هؤلاء النبلاء رجلا من المقربين إلى القصر، وهذا الرجل اسمه الشفاليه دي روهان
Chevalier du Rohan
الذي قرر أن يكلف بعض خدمه أن ينتظر فولتير حين يخرج من الملعب وأن يصب عليه بعض العصي، فانتظره الخدم حتى خرج ذات ليلة من الملعب ثم تلقوه بعصيهم وأخذ النبلاء يرون هذا ويضحكون لذلك، فحنق فولتير من ذلك الوقت على النبلاء وأخذ يشعر شعورا حادا جدا بالفروق بين النبلاء الممتازين وبين الطبقات الأخرى؛ الوسطى أو الدنيا التي لا حظ لها من الامتياز.
حاول فولتير أن ينتقم لنفسه وأن يبارز هذا الرجل، ولكنه لم يوفق إلى شيء من هذا، ولكن الذي وفق إليه إنما هو صدور أمر الحكومة بالقبض عليه وإلقائه في السجن فأرسل إلى الباستيل، وأمضى فيه نحو سنة، وفي هذه المدة بدأ كتابا من كتبه التي أتاحت له شهرة عظيمة وطال عليه السجن، وأخذ الذين يحبونه يعملون على إخراجه، ولكن الحكومة أذنت بإخراجه من السجن على أن لا يبقى في فرنسا، فقبل وأعطى على نفسه عهدا بذلك فخرج من السجن وعبر المانش إلى إنجلترا؛ حيث أقام ثلاث سنوات من سنة 1726م إلى أواسط سنة 1729م.
هذه المدة التي أقامها في إنجلترا كانت عظيمة الأثر في حياته، وكانت عظيمة الأثر جدا في حياة الأدب الفرنسي، بل في الحياة الفرنسية العامة من جميع الوجوه، كان فولتير شديد الذكاء قوي الطبع حاد المزاج سريع التأثر بكل ما يرى ويسمع ويحس، شديد التأثر بالذين عاصروه، والمجددين منهم خاصة، كان ميالا إلى المحافظة في الأدب، متأثرا بالأدب اليوناني واللاتيني وبأدب القرن السابع عشر، ولكنه في الفلسفة كان مجددا جدا؛ كان منحرفا عن الفلسفة الرسمية في فرنسا أشد الانحراف، متأثرا بالحركة الجديدة وهي حركة الميل إلى العلوم التجريبية، فلما عبر البحر إلى بلاد الإنجليز صادف أحسن بيئة لهذا الميل؛ فلم تكن هناك في أوروبا أرض أثر فيها العلم التجريبي كإنجلترا.
ويكفي أن تذكروا أن فولتير عبر البحر إلى إنجلترا في عصر كانت تسود فيه فلسفة «نيوتون» واستكشافاته العلمية، لم يكد فولتير يصل إلى إنجلترا حتى انغمس في الحياة الأدبية الإنجليزية انغماسا مدهشا، وخلا إلى نفسه في قرية من القرى الإنجليزية، ولم يكد يتم سنة وبعض سنة حتى أتقن اللغة الإنجليزية إتقانا مكنه من أن ينشر فيها كتابين، وإذا الكتابان يظفران بنجاح عظيم.
अज्ञात पृष्ठ