كان من احتلال نابوليون، ومعه ذلك الرعيل الجميل من علماء أمته في مصر، ثم من استيلاء محمد علي عليها وسعيه الحثيث في إدخال الحضارة الغربية، مبدأ كل نور في الشرق العربي، استفادت منه البلاد المجاورة بحكم الطبيعة، ولا سيما أبناء الشام؛ فإن منهم من درسوا في مدارس مصر وتمصروا فخدموا البلاد التي هذبتهم، ومنهم من نقلوا قليلا من النور إلى بلادهم، واستفاضت أخبار النهضة المصرية في البلاد المجاورة فأنشأت تأخذ عنها ما وسعها أخذه.
فمصر إذن هي التي تقتبس بفضل صاحبها محمد علي من نور العلم الصحيح، ومصر أدخلها الغربيون في دور ارتقاء لم يسبق له مثيل فما عصت على قبول مدنيتهم، ومصر هي التي جسرت في عهد الانحطاط على الجمع بين علوم الدين والدنيا. فتحت لكل منها طريقا أمينا لا يدخل الوهن منه على صاحبه، ومصر هي التي ظهرت فيها آثار المعارف قبل أمها الدولة العثمانية حتى لقد حسدتها هذه في تلك الأيام وودت لو يكون لها مثل ما لولايتها بالأمس شيء من مظاهر العلم والتمدين. هذا مع أن المصريين كانوا في نظرها فلاحين إفريقيين، وهي في قارة أوروبا ووارثة مملكة بيزنطية. مصر أثبتت استعداد الأمة للأخذ بأساليب الارتقاء من دون جلبة، وأنها كل ساعة مستعدة لقبول الخير لا تسأل عن مصدره ومصدره. •••
وكان للغرب في هذا الشرق منذ زمن بعيد رهبان ومبشرون، ولا سيما في الأرض المقدسة من فلسطين، وفي جبل لبنان من الساحل الشامي، يعلمون بعض أبناء طوائفهم مبادئ العلوم باللغة القومية مع إحدى اللغات الغربية، وفيهم الإيطالي والفرنسي والأمريكي واليوناني والروسي والإسباني والنمساوي والأسكتلندي وغيرهم. وزادت صلات الطوائف الباباوية في الشام مع رومية، ولا سيما في القرن السادس عشر يوم أسست للموارنة في عاصمة النصرانية مدرسة يتخرج فيها خدمة الدين في العلوم، وكثر توافد الإنجيليين منذ سنة 1838 للدعوة إلى البرتستانتية، وأسسوا مطبعة عربية كانت لهم في مالطة أولا يطبعون عليها الأناجيل بلغات مختلفة لنشرها في المشرق، ثم تبعهم اليسوعيون من الطوائف الكاثوليكية ينشئون مطبعة لهم، وجعل دعاة البرتستانتية والكثلكة من ثغر بيروت وما في ضواحيه مثل عبيه وعين طورا أس حركاتهم الدينية والعلمية في الشرق القريب، يتنافسون ويقيمون المدارس العالية والثانوية والإبتدائية للذكور والإناث. وبعد أن كانت بيروت أشبه بقرية سكانها بضعة آلاف فقط، أصبحت مدينة علم كبيرة يقصدها المتعلمون من القاصية، على نحو ما كانت اشتهرت أواخر عهد الرومان بمدرسة الفقه، تخرج قضاة للمملكة الرومانية. وزاد امتزاج العرب بالغربيين، وعرف العرب أن أهل أوروبا يفوقونهم في مقومات العمران، وأخذ الناس يدركون نقصهم، ويسعون جهدهم نحو الكمال؛ ليقلدوا في منازعهم من تقدموهم قرونا في مضمار الحضارة.
إنا لا نقول بدعا، ولا ندل على مجهول، إذا سجلنا أن أكثر ما في معظم بلاد العرب من أمارات النهوض هو من حسنات الغرب عليها. فقد كانت فرنسا أواخر القرن الثامن عشر مهد الإصلاح الاجتماعي، نشأت منها مساواة الناس عامة أمام القانون، واشتراكهم في الحقوق والواجبات المدنية والسياسية، وتمتع الإنسان بحرية العمل والصناعة وحرية الدين والفكر. أي إن فرنسا نشرت حقوق الإنسان والحقوق الأساسية في سياسة البلدان، فأخذت عنها معظم بلاد الغرب. وعن الفرنسيس أخذ العرب هذه الأصول، وإن لم يستطيعوا لمكان السياسة في بلادهم أن يطبقوها بحذافيرها. ومن الغرب تعلمنا معنى الوطن والوطنية، وحب الجنس والقومية. وهذا شيء جديد لم يعهد للعرب مثله، بعد أن ذاق الناس الأمرين من ظلم الملوك ومن داناهم ووالاهم قرونا طويلة، ولم يقدروا أن يغيروا أوضاعهم، بل ما وسعهم التفكير في مثل هذا التغيير، أو في شيء يماثله لقيام أمر الجماعة، واسترجاع الحقوق المضاعة.
كان الناس في ديارنا قبل أن نتقيل خطى الغرب في حضارته، يعيش الفرد منهم لنفسه، فأصبحوا يوقنون اليوم أن بقاءهم مناط تضامنهم وتكاتفهم، وأن الشعب يقوى على إملاء إرادته إذا كانت مادياته سليمة موفورة، وبقدر حظ الأمم من الماديات تصح لها معنوياتها. يقول العلامة غوتيه: «كثيرا ما كان الشرقيون ينضمون قبائل وشعوبا فيؤلفون ممالك، كانت المملكة الإسلامية من أحدثها عهدا. وما ألفوا قط أمة على أساس الإقليم، ولم يعهد لهم أن عرفوا رابطة التضامن؛ فالشرقي أو المسلم هو شخص لا يمكن ضبطه، يعيش منعزلا بنفسه متوحدا، ووجهه يعنو إلى الله الذي هو همه الوحيد، وكان من هذه الفردية الغضبى ضعفه أمام الأمم الغربية.»
تعلمنا من الغرب أصول الصحافة وأنشأنا ننشئ صحفا محررة تعنى بالأمور المالية والسياسية وأخبار الدول والممالك، واقتبسنا أسلوب المجلات الدورية ننقل أكثرها عن مجلات الغرب الفرنسية والإنجليزية وننسج على منوالها، ونجود فيها النقل من العلوم النظرية ونلخص آراء الغرب ومذاهبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية، ونترجم من الكتب العلمية والأدبية ما لم نكد نعرف اسم فنه من قبل. وكانت مصر مجلية في هذا المضمار، نشرت منها مئات بمعاونة حكومتها، وعناية أبنائها الذين اغترفوا من الينابيع الصافية في العلم الحديث. وكل بلد سبق في هذه السبيل، وعلم أبناءه كمصر، كتب له التقدم على غيره من الأقطار. ولا عجب أن أصبحت مصر بعد هذا الجهاد تشبه بعمرانها إحدى الممالك الغربية الحديثة.
وأثرت الصحافة في عقول من أدمنوا تلاوتها، ودخلت الأفكار الجديدة أوساطا ما كان يظن أنها تهتم بها وتستفيد منها، وبدلت من طرق التفكير وأصول المعايش ونظام المجتمعات، وعلمت الناس ما لم يكونوا يعلمون؛ علمتهم أن وراء حياتهم المادية حياة معنوية لا تبقى لهم مادياتهم بدون الأخذ بحظ وافر منها، علمتهم بسائط في التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والزراعة وحال الأمم وسياسة السياسيين، ومجادلات المشرعين، واستعمار المستعمرين، وتدليس المدلسين، وعلمتهم أيضا أنهم كانوا شيئا مذكورا فيما مضى، ولا حياة للأحفاد بدون الأخذ من سيرة الأجداد، والاقتباس من المدنية الراهنة كل ما لا ينزع منهم مشخصاتهم ومقدساتهم، حتى غدا بعض من أطالوا تلاوة الصحف وتفهمها، أرقى عقلا من كثير ممن كانوا يسمونهم بالخاصة منذ مائة أو مائتين من السنين. علمتهم أن لا قيام لأمرهم إلا بالقومية العربية، وأن الدين وحده لا ينجيهم مما هم فيه، وأن التساهل بأمور الدنيا يذهب بالدين والدنيا معا، علمتهم أن داءهم الجهل المركب وأنه لا سبيل إلى نزع لباسه القذر إلا بالتطهر بالعلم، والأخذ بقسط من الأدب؛ فأقبلوا أي إقبال على المدارس والكتاتيب شاعرين بما هم عليه من النقص، والشعور بالعيب أول مراتب الكمال.
كان الناس قبل سبعين أو ثمانين سنة يساق أولادهم إلى الكتاتيب في الديار الشامية بقوة الجند والدرك. وكان التعليم على عهد محمد علي في الديار المصرية مكروها عند المصريين كرها شديدا، حتى إن الأمهات كن يفقأن عيون أولادهن حتى لا يدخلوا المدارس، بل اضطرت الحكومة المصرية في بعض أدوارها الأولى أن تتخطف تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى كما يتخطفون عساكر الجيش؛ فزاد إقبال المتعلمين على المدارس زيادة مستغربة، وكل قرية بل أهل كل قبيل من البوادي يتطالون إلى تعليم أبنائهم بكل حيلة، دع سكان المدن فإنهم من ذلك على حصة موفورة. ويا ويل فتى أو فتاة توصد في وجهه أبواب المدارس يوم افتتاحها من خريف كل سنة إما لقلة الأماكن أو لتعذر قبول الطالب لصغر سنه، أو لسبب آخر. ويا ويح تلميذ يخفق في فحوصه، ولا ينال ما تريد نفسه من الشهادة والإجازة. واستنتجنا من ذلك أن الإقبال على التعليم أصبح من الأمور المتعارفة، لا يختلف اثنان بفائدته في الحواضر والبوادي.
لما اخترعت أوروبا البخار حوالي سنة 1840 وسهل السفر على الناس في قطارات البر وسفن البحر، زاد اختلاط الفرنج بالعرب، وزاد هؤلاء ثقافة، يحملها إليهم طلاب العلم وأرباب الرحلات والتجار، وسياح الغربيين وحجاجهم القاصدون إلى بلادهم، يزورون آثارها المدنية والدينية، ومنها ما تقدسه أمم الغرب النصرانية؛ لأنها موطن المسيح ومظهر عجائبه، ومنها ما يدهش له الغربيون كآثار الفراعنة أم المدنيات القديمة المعروفة في مصر، أو مصانع تدمر وبعلبك وجرش والبتراء في الشام، وزاد هذا الاختلاط شدة لما صحت عزائم سكان جبال الشام على نزول أمريكا طلبا للرزق، وكان أهل أوروبا سبقوهم إلى نزولها منذ نحو ثلاثة قرون؛ أي استعمروا الأمريكتين منذ فتحها كريستوف كولمبس وفاسكو دي جاما. وكان منذ أكثر من نصف قرن من لا يعود إلى بلاده بمال، يرجع إلى أهله باقتباس شيء من أصول المدنية؛ لأنه رأى في ذهابه وإيابه بلادا أرقى بعمرانها من بلاده، واختلط بجماعات أعلى كعبا في المدنية من جماعته، ومعظم ما نراه من الدور والفنادق والمخازن بل البيع والمدارس الطائفية في الديار الشامية عمر بأموال المهاجرين من الشاميين، وجماع ما يبدو في مجتمعنا العربي منقول من المدنيتين اللاتينية والأنجلو سكسونية، والشاميون منذ عهد الفينيقيين تجار مشهود لهم، وقد ينسيهم حب الربح سائر مظاهر الحياة في الأمم؛ فيهون عليهم التخلي عن لغتهم وكثير من أخلاقهم إذا كان من وراء ذلك اغتناؤهم.
إذا عرفنا هذا، فلا نكون إلى الغلو إذا ادعينا أن الفرق اليوم بين مصر والشام وتونس مثلا، وفيها تمازجت الحضارة الحديثة ببقايا الحضارة القديمة، وتوفر أهلها على الأخذ عن الغرب علمه وصناعاته، وبين الحجاز ونجد واليمن، وهذه لم يتيسر لأهلها هذا الامتزاج، كالفرق بين مدنية العرب في القرن الثاني للإسلام والقرن الذي سبق أواخر عهد الجاهلية، فأهل الجزيرة ينقصهم إلى اليوم، ولا نكران للحق، كثير من مقومات المدنية، وهم مع هذا يرون أن ما هم فيه غاية الغايات؛ ذلك لكونهم انقطعوا عن العالم المدني طوعا أو كرها، وقل اختلاطهم بالغربي إلا في بعض سواحل البحر الأحمر والبحر المحيط الهندي وخليج فارس، وهذا على قلة محسوسة.
अज्ञात पृष्ठ