لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم
كان المسلمون مع الصليبيين أيام المهادنات على غاية اللطف والمياسرة، يضيفونهم ويكرمونهم ويعاملونهم معاملة حسنة؛ فامتزج الصليبيون في الشام امتزاجا دائما متصلا بأهل البلاد نصاراهم ومسلميهم، واعتمدوا عليهم في أعمال الزراعة وبناء الكنائس والقلاع، وجندوا كثيرين منهم في جيوشهم، ومنهم بعض نصارى لبنان، وكان منهم الأدلاء والتراجمة، وعاش الصليبيون بالقرب من أشراف المسلمين يتبادلون وإياهم فروض المجاملات ويعقدون معهم عهود الصيد، وأسر المسلمون كثيرا من الإفرنج وظلوا في أسرهم أمدا طويلا، فكانوا يعاملونهم أحسن معاملة ويمنحونهم قسطا وافرا من الراحة، فنشأت علاقات ود بين الفريقين، وكان اتجار كل فريق في أرض جاره من عوامل التعارف بين المسلمين والنصارى من أهل الغرب. وتزوج الصليبيون من غير جنسهم من الشاميات والأرمينيات أو من العربيات اللائي تنصرن، ونشأت صداقات بين أفراد الفريقين، عقبى المعاهدات التي عقدت بين المسلمين والصليبيين لاستعانة فريق بآخر ليقاوم له منافسا أو منازعا من أبناء دينه.
هذا قول مونرو، وزاد أن التسامح المتبادل دخل في الأخلاق؛ فكان النصارى يؤثرون استشارة أطباء المسلمين لتفوقهم على أطبائهم في علاج الأمراض ولتجافيهم عن استعمال السكين والمبضع في الجراحة، وقد وصف سفير الإمبراطور فريدريك بربروسا في عهد صلاح الدين معتقدات الإسلام وصفا حسنا، وأطرى روح المسامحة عند المسلمين وألمع إلى الحرية التي أطلقوها لأتباع كل دين. وقال إن أكثر المسلمين يكتفون بزوج واحد، وإن صلاح الدين كان محبوبا في الغرب لرأفته وكرمه بعد استيلائه على أورشليم، وكان شديد التسامح مشهورا بتأدبه. وكتب ريكولدوس في مدح المسلمين قائلا: ومن لا يعجب بمحاسنتهم وبخشوعهم في صلاتهم، ورحمتهم الفقير، وبتقديسهم اسم الله والأنبياء والأماكن المقدسة، وبحسن عشرتهم ولطفهم مع الغريب وباتفاقهم وتحاببهم.
ويؤخذ مما قاله ميشو ودروي وسيديليو ولافيس ورامبو وسنيوبوس ولبون وبتي وغيرهم من المؤرخين والحكماء أن الحروب الصليبية عادت على الغرب بخيرات لا تستقصى، ولو لم يكن منها غير تحطيم قيود التعصب الكنسي وما رآه الصليبيون عيانا من تسامح المسلمين وتساهل مشاهير أمرائهم لكفى في فائدتها. فانتشرت التجارة بعد الحروب الصليبية أكثر من انتشارها أيام المملكة الرومانية، وأخذت أوروبا عن العرب عادات الفضيلة والمدنية، وكل ما يهون الحياة ويحليها للأنفس، بدأت الصلات بين الغربيين والشرقيين بحرب بين المؤمنين، وانتهت بمسائل تكونت بين المتجرين، وتحضر الغربيون بامتزاجهم بالشرقيين، وأثر هذا الاختلاط في أفكار النصارى الدينية؛ فتحمسوا أولا للطعن والنزال، ولما شاهدوا المسلمين عن أمم ، ورأوا رجالا أشداء كرماء منورين أمثال صلاح الدين الذي أخلى سبيل أسارى النصارى بدون فدية، وبعث بطبيبه إلى أحد زعماء الصليبيين ليداويه من مرضه، عندئذ بدءوا باحترام المسلمين.
كانت الحروب الصليبية من حيث غايتها الأولى عقيمة، فإن الصليبيين على ما بذلوا من الأموال، وأهرقوا من الدماء، رجعوا من الشرق بعد قرنين كاملين، بخفي حنين. وأفادت هذه الحروب من طريق آخر، فكان الاختلاط بالشرق عشرات من السنين من العوامل القوية في سرعة انتشار المدنية في أوروبا، وكان الشرق بفضل العرب ينعم إذ ذاك بمدنية زاهرة على حين كان الغرب لم يزل غارقا في التوحش، وقد استدللنا من مجموع أعمال الصليبيين أنهم كانوا في كل مكان إلى الهمجية حقيقة، ينهبون الأموال ويقتلون الأنفس، لا فرق عندهم بين عدوهم وصديقهم؛ خربوا في القسطنطينية أثمن كنوز العاديات اليونانية واللاتينية، ولم يربح الشرق باختلاطه بهؤلاء البرابرة من الصليبيين، بل خسر ونتجت من ذلك كراهته للغربيين كراهية دامت قرونا.
قبل الحروب الصليبية، كان لا يعرف الشرق العربي من الغربيين غير أفراد أذكياء رحلوا في التجارة، أو جاءوا فلسطين للزيارة، أو نزلوا الأندلس وصقلية يعجبون بما لا يعرفونه من حضارة وغضارة، وفي هذه الحروب عرفوا الشرق الإسلامي وكان الواغلون عليه من مختلف الطبقات، فرأوا المسلمين في عقر دارهم، وحققوا أنهم ممتازون بصفات حربية وأدبية واجتماعية، رأوا أمة تحررت من قيود الدينيين إلا قليلا، وأيقنوا أنها من غير الطراز الذي عرفوه من أجيال الناس، على حين كانت أوروبا تحت سلطة الكنيسة الرومانية، يتصرف الباباوات فيها بالأشباح والأرواح، ويقيمون في كل مكان حكومة وسط حكومة، تجبي أموالا من الناس وتعفي أملاكهم من الخراج، كما يعفى خدمتها من المحاكمة مع الناس، بل كثيرا ما كان يحاكم الشعب نفسه في الكنيسة، ولطالما كان الأسقف في أبرشيته خصما للحاكم السياسي ورقيبا عتيدا عليه. فكان البابا منذ القرون الوسطى - كما قال العلامة جول سيمون - لا يعد نفسه إمام الأحبار فقط، بل خليفة الله في الأرض، ليس بينه وبين الرياسة الملكية العامة إلا خطوة قصيرة، استعد لاجتيازها بالقول، ولم يدخر وسعا في تطبيق القول على العمل، فرأس الملوك وألبسهم التيجان ، ولم يفتأ اللاهوتيون والوعاظ يوطئون له أكناف هذه السلطة المدنية العامة؛ كأنهم بذلك يخضعون الملوك قاطبة لله الواحد القهار.
قالوا إن شعوب الغرب في القرن الثاني عشر كانوا في حالة بداوة وغباوة، وهذا ما ساعدهم على إعلان الحروب الصليبية في الشرق، فلما نشأت المدنية الحديثة في القرن السادس عشر، وتسربت أولا إلى رؤساء الكنيسة والملوك، أصبحوا لا يرون الاغتراب عن مواطنهم، ولا أن يفارقوا مساقط رءوسهم، وعمت الصناعات وحسنت الزراعة، وانتشر العلم، وغدا ذكرى كل مدينة وكل أسرة، وتقاليد كل شعب وقطر، والألقاب والامتيازات والحقوق المستحصلة والأمل في تنميتها، كل ذلك قد غير من أخلاق الإفرنج، وبدل من ميلهم إلى حياة التنقل والارتحال، وجعلها صلات تربطهم بالوطن، وكتب التوفيق للملاحة في القرن التالي باكتشاف أمريكا، واجتاز الملاحون رأس الرجاء الصالح؛ فنشأ من هذه المكتشفات تبدل كثير في التجارة، وأخذت الأفكار تتجه وجهة جديدة، وأنشأت المضاربات التي كانت قائمة بالحروب الصليبية تسير نحو أمريكا والهند الشرقية، ففتحت أمام الغربيين ممالك كبرى وأقطار غنية تسد مطامعهم، وتشبع نهمة التائقين منهم إلى المجد والثروة والمطوحات، فأنست حوادث العالم الجديد ما في الشرق من عجائب.
لما قفل الغزاة من الصليبيين راجعين إلى بلادهم، وقد أضاعوا من صيت فرسانهم، وفقدوا من شممهم وعزة أنفسهم لما حلوا غير أرضهم، أخذوا يقصون على بني قومهم أخبارا تناقض ما كان ينشره دعاة الحرب من رؤساء الكنيسة، من أن المسلمين جماعة من الوثنيين غلبوا على الأرض المقدسة، وأجلوا عنها دين التوحيد، ونفوا منها كل فضيلة، وأنهم وحوش ضارية، وحيوانات مفترسة؛ أخذوا يقولون لقومهم إن أعداءهم كانوا أهل دين وتوحيد ومروءة، وذوي ود ووفاء وحرمة، وإن ما كانوا اتهموا به غير صحيح، وإن دعاة الحرب المقدسة تقولوا عليهم ومزجوا أقوالهم في المسلمين بكثير من الأفاويه لتوافق روح ذلك العصر، والخصم قد يستحل لنفسه أن يقول في خصمه ما قاله مالك في الخمر.
وأهم ما استفاده الغرب من حروب الصليبيين واختلاط أهله بأهل الإسلام أن القابضين على زمام الأمر في الغرب لم يعودوا كما كانوا في الثمانين السنة الأخيرة التي مضت قبل سقوط القدس بأيدي المسلمين يأتمرون في الحال بأوامر الكنيسة، ويحمسون الناس ليسيروا بهم على العمياء، يقتلون ويقتلون على غير فائدة محسوسة، ومن أعظم ما عاد على الغرب بالفائدة من هذه الحروب، أنه لم تعقد خلالها دواوين التحقيق الديني، ولم يحرق أحد بالنار، ولم تقطع الأعناق في سبيل الأفكار الدينية والعلمية؛ فكأن الجلادين تعبوا من قطع الرءوس وبسط العقوبات على الناس مدة ثلاثة قرون، وكأن رجال الدين والسياسة هادنوا العدو الداخلي لينالوا من العدو الخارجي، وكان المتهم في غضون انعقاد ديوان التحقيق، إذا حكم عليه بالقتل لا يدافع عن نفسه، وإن كان متقلدا سيفا، وذلك عملا بآية الإنجيل الطاهر: «إذا ضربك أحد على خدك الأيمن، فحول له الأيسر»، فكان المتهمون بالإلحاد يساقون من قبل كما يساق قطعان من الغنم إلى المجزرة، ساكنين عزلا من أسلحتهم مستسلمين للأقدار، وكان الوالي إذا أراد أن يجادل أحدهم بالبرهان على سبيل الشفقة لا يفهم ما يقول لأنه غبي جاهل.
وأدى الضغط على الناس في الغرب باسم الدين إلى قيام لوثيروس بعد حين، وكان سبب ثورته - كما قال العلامة جول سيمون في كتابه حرية الضمير - أن البابا أراد إنجاز كنيسة القديس بطرس في رومية، فنضب المال لديه، وعقد النية على بيع الغفران، فوزع عمالات العالم النصراني على بعض حاشيته، فجبوا جزءا من المال المفروض، وباعوا مجموع الريع من جباة متعهدين، ووقعت سكسونيا وجزء من ألمانيا في نصيب أخت البابا، فعهد إلى رهبنة الدومينيكيين أن يبشروا بالغفران لتثمير هذه التجارة، فاغتاظ لوثيروس من هذا الحيف، وكان صاحب إحساس وشرف، وطفق يثير الناس على الدومينيكيين لتعلقهم بخدمة صراف في عمل غير شريف، وأخذ يبحث عن معنى هذه التجارة، وعن قيمة هذا الإنعام في العالم الثاني، يبيعه البابا في الدنيا مقابل أسناد وسفاتج تدفع للجباة ووكلائهم، وحاولت الكنيسة الرومانية أن تدعو إلى نصرتها جميع الأمراء فلم تفلح، وكان من ذلك الإصلاح الديني المعروف، وتلك المذابح الدينية في معظم البلاد، على صورة لم يسبق لها نظير في الغرب ولا في الشرق، قال: وكان الباباوات مزجوا السلطة الروحية بالسلطة السياسية، وإن لم يخضع لهم جماع الأمراء والقياصرة المجاورين ممن دانوا بدينهم، وانتهت بهم الحال أن ادعوا العصمة واستهووا رعاياهم، وتصدى كثير من المصلحين قبل قيام لوثيروس وخلعه طاعة البابا لإصلاح الحال، فأميتت عقولهم، كما قام كثيرون قبل جاليله وديكارت، وكم من قرائح ضاعت، ومن أعمال علمية بارت، ومن بلغاء خابوا وما أسمعوا أصواتهم، ومن دهاة عجزوا وتضاءلوا! فالغربيون إذن أفادتهم حروب الصليب تنفيس خناق العلماء، والأخذ بالمخنق من بعض المتعصبين من الدينيين.
अज्ञात पृष्ठ