إن هذه النظرية - بما تزعم لنفسها من كيان علمي - مصدر خطر حقيقي؛ لأنها تستخدم كأداة، لا من جانب الأحزاب السياسية بالمعنى الغربي، ولكن من جانب الأحزاب الشيوعية المركزية المنظمة التي تخضع لحكم الفرد، والتي تتألف منها الحكومات التي تحتكر النفوذ السياسي والاقتصادي والروحي على مئات الملايين من البشر. وهذه الأحزاب ذات النفوذ المريض هي تطبيق لفكرة لينين على الحزب التي ظهرت نتيجة لفترة طويلة من النشاط السياسي. والواقع أن الحزب على الصورة التي يراه عليها لينين يكون، مع نظرية ماركس عن استمرار النزاع، لب النظرية الشيوعية وتطبيقها. ومن ثم وجب علينا أن نملك أيضا الدور الذي يلعبه الحزب اللينيني وحقيقته، ما دام الحزب هو الحقيقة الاجتماعية الأساسية التي تتميز بها الدولة الشيوعية، وما دام حقيقة من الحقائق الكبرى التي تدعو إلى انقسام العالم هذا الانقسام الشديد. إن تأليف الحزب على هذه الصورة يفسر لنا كيف أن 240000 روسي ينتمون إلى الحزب هم الذين يمتلكون النفوذ ويتحكمون في دولة من الدولتين الكبيرتين في العالم، وهي دولة تستطيع أن تهدد الدول الأخرى بصواريخها وسيطرتها على الفضاء، كما تفسر لنا كيف أن 20000 صيني ينتمون إلى الحزب الشيوعي يتحكمون في 650 مليونا من البشر تتألف منهم أقوى دولة في آسيا.
وتأليف الحزب الثوري على هذه الصورة هو من عمل لينين. وقد عبر لينين بهذا الحزب عن الحاجة إلى مجموعة متآمرة تستطيع أن تقوم بعمل الجيش السياسي. وأحس بأن العمال يميلون إلى الاقتناع بالنضال اليسير في سبيل رفع مستوى معيشتهم عن طريق اتحاداتهم، وأنهم لا يستطيعون تنمية وعيهم الثائر إلا إذا بصرهم الثائرون من أرباب الفكر برسالتهم التاريخية. وقد أصر - فوق ذلك - على ضرورة وجود ثوريين محترفين يستطيعون أن يكرسوا حياتهم كلها للنضال ضد القيصرية، ويؤلفون لجنة مركزية للحزب، تكون بمثابة أركان الحرب للجيش السياسي العام، وزاد إحساسه بهذه الضرورة صعوبة العمل السياسي في ظل النظام القيصري حينما كان بالإمكان إبعاد الأحزاب الثائرة. وكانت الحرب العالمية الأولى وانهيار القيصرية في عام 1917م هي المرحلة الثانية، عندئذ عاد لينين إلى روسيا لكي يملك حزبه زمام النفوذ؛ أولا باستغلال السخط المتزايد بين أوساط العمال والجند والفلاحين، ثم بالدسائس، فاستطاع أن يسقط بالقوة الحكومة المؤقتة التي وصلت إلى كرسي الحكم بالطريق الديمقراطي. وقد بدأت ثورة أكتوبر بحل المجلس النيابي، وهو أول مجلس روسي تم انتخابه قبل ثورة أكتوبر بقليل بالاقتراع العام الحر. ويرجع السبب في هذه الحركة القاضية إلى أن زعماء الحزب الشيوعي لم يكن بوسعهم أن يسيطروا على المجلس وهو يتألف من أغلبية غير شيوعية. ومن السذاجة كما قال لينين «أن ننتظر أن تكون للبلاشفة الأغلبية بالطريق الرسمي. إن ذلك يتنافى ومنطق الثورة.»
ثم جاءت بعد ذلك المرحلة الأخيرة من مراحل تأليف الحزب الواحد التي أعقبت فترة الحرب الأهلية، وخرست أصوات جميع الأحزاب السياسية الأخرى وكل وسائل النقد السياسي الحر، وصحب ذلك تأليف التشيكا، أو إدارة البوليس السري التي قذفت الرعب في النفوس، وقضت على كل معارضة من جانب الجماهير، وقمعت ثورة الفلاحين في روسيا الوسطى ضد ما قامت به الحكومة من الاستيلاء على موارد التموين. ونتيجة للاضطراب الذي حدث بين صفوف العمال في بتروغراد تألفت جماعة من العمال المعارضين ذوي النفوذ الشيوعي لكي تطالب بإنهاء تجنيد العمال وتكوين إدارة محلية بكل مصنع، ولكن هذه الحركة أيضا أمكن قمعها. وكذلك أمكن قمع الحركة التي قام بها الملاحون بقاعدة كرونشتات البحرية الذين رفعوا من قبل لينين إلى ذروة الحكم في عام 1917م؛ لأنهم بدءوا يطالبون بالحريات الديمقراطية. ولما فشل قيام الثورة الألمانية المرتقبة رأى لينين أنه لم يعد بد من تعزيز نفوذه داخل البلاد، فتقدم ببرنامج جديد للمؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الذي عقد في عام 1921م. وفي هذا البرنامج أعلن السياسة الاقتصادية الجديدة التي سمحت بحرية التجارة في القرى ووضعت القيود على حرية العمل في المدن، وأصدر قوانين جديدة تحرم تكوين جماعات حربية كما تحرم الثورة ضد برنامج اللجنة المركزية.
وبهذه الحركة التي قام بها لينين تخلت الشيوعية عن كثير من الآراء النظرية الماركسية الأولى التي تتعلق بنشأة الثورة الاشتراكية وتطورها؛ ذلك لأن ماركس نادى بأن قوى العلاقات الاجتماعية في الإنتاج تخلق وعيا اشتراكيا صحيحا بين العمال وتقودهم إلى تنظيم الثورة ضد الرأسمالية، وأن الرأسمالية لن تتدهور إلا بعد أن تبلغ ذروة تطورها، وأن العمال، وهم الأغلبية الساحقة من السكان، سوف يقيمون ديمقراطية العمال لكي يحكموا العلاقات القائمة بينهم وبين أنفسهم، كما يقيمون دكتاتورية البروليتاريا لكي يحموا الثورة ضد الرأسماليين الذين انتزعت منهم أملاكهم. بيد أن هذه الآراء الماركسية الأولى قد نبذها لينين عندما اصطدمت بالواقع المر. ولم يكن دور الحزب الشيوعي الروسي هندسة الثورة التي نشبت ضد القيصرية، وإنما كان دوره دور المكتسح الذي لا يبقي ولا يذر. وقد ننسى أحيانا أن العمال الروس كانوا يؤلفون أقل من عشرة في المائة من السكان، وأنهم لم ينجذبوا عموما نحو الحزب الشيوعي الروسي. وكذلك لم تنشب الثورة في بلد توافرت فيه الشروط الاقتصادية للنضج الرأسمالي الذي أشار إليه ماركس، وإنما نشبت في بلد تسوده الزراعة. ولم تكن الدكتاتورية بعد أكتوبر في الواقع دكتاتورية العمال، أو حتى دكتاتورية جزء يسير من العمال، وإنما كانت دكتاتورية الحزب وتحكمه في الناس، بل دكتاتورية اللجنة المركزية وتحكمها في الأعضاء. وهذا الحق الذي اكتسبه الحزب - حق الوصاية على العمال - حق الحزب في الاستعاضة برأيه القاطع وإرادته القوية عن أوهام العمال وأسباب ترددهم، هذا الحق هو أساس اللينينية.
والمرحلة الحاسمة التالية في تطور الحزب تشمل ثلاثين عاما من حكم استالين، وهي تثبت أركان ما أقامه لينين من دعائم. عندما أصبح استالين سكرتيرا عاما للحزب في عام 1922م، استغل منصبه في تعيين أتباعه في المراكز الهامة لكي يضمن الأغلبية لنفسه في مؤتمرات الحزب، وبذلك يسيطر على الحزب وعلى اللجنة المركزية ويبسط نفوذه هنا وهناك. وقد تآمر في البداية مع بعض زملائه لكي يبعد تروتسكي عن خلافة لينين، وعمل على الحد من نفوذه، ثم تآمر مع آخرين وقضى على حلفائه الأولين، وحد من نفوذهم، ثم فصلهم من الحزب في عام 1927م. وفي عام 1928م انقلب على أنصاره الجدد، وأعلن في عام 1929م أن جميع قرارات المكتب السياسي يجب أن تكون بالإجماع، ثم أعلن بعد ذلك خطة السنوات الخمس، التي تكفلت بفرض الزراعة الجماعية، واطراد تصنيع الاقتصاد. وقد نفذت الخطة بكل وسيلة من وسائل الإرغام، ومات في سبيل ذلك الملايين من الناس، وزج بغيرهم من الملايين في المعسكرات التي أقيمت في المناطق المهجورة بشمال روسيا في قارتي آسيا وأوروبا، وهي معسكرات كان يديرها البوليس السري، ويرغم فيها الأفراد على العمل الإجباري. واضطر الفلاحون إلى ذبح الماشية يسدون بها رمق الجوع، وأصيبت الزراعة بنكسة جعلتها أضعف قطاع اقتصادي في البلاد. ومن النتائج الأخرى لسياسة استالين تقدم الصناعات الثقيلة والصناعات الحربية مع إهمال إنتاج السلع المستهلكة وأدوات البناء، حتى أصبحت جمهرة الناس على حافة الموت. وقد نفر عدد كبير من أعضاء الحزب الشيوعي من هذا البرنامج حتى وجد استالين نفسه مضطرا إلى التطهير الدموي والمحاكمات العامة لزعماء الحزب القدامى، وغيرهم من الأعضاء، وقواد الجيش وكبار الموظفين. وبفضل هذا الإرهاب أصبحت لاستالين السيطرة المطلقة على الحزب، وأصبحت للحزب السيطرة الكاملة على الدولة، والشعب، وكل ناحية من نواحي المجتمع الروسي. وتسوغ إقامة هذا الحكم الاستبدادي ضرورة إنجاز التصنيع في بلد متخلف من الناحية الاقتصادية لفرض الظروف الاقتصادية الأساسية التي تميز بها البناء الشيوعي.
وتتمثل المرحلة الحاسمة التالية لتثبيت الحزب في سياسة استالين الخارجية. ولما كانت النظرية الماركسية لا تفتأ تؤكد أن منطق الرأسمالية يسوق القوى الرأسمالية إلى القتال مع الاشتراكية، فلا بد من تعزيز نفوذ الدولة الجماعية وبسط سلطانها لحماية موطن الاشتراكية، ولتحقيق النصر الشيوعي في جميع أرجاء العالم. وتؤكد السياسة الخارجية التي انتهجها استالين جوانب الدفاع السلبي من خطته في أثناء الفترة التي تقع بين تاريخ استيلائه على النفوذ في عام 1922م حتى ظفر هتلر بالحكم في عام 1933م. ولما وجد استالين نفسه مواجها لقوى ألمانيا النازية المتزايدة، حول سياسته الخارجية نحو الأمن العالمي لكي يكتسب التأييد ضد الخطر الهتلري من جانب دول الغرب في عصبة الأمم. وظهور هذا العدو الحقيقي إلى جانب عداوة اليابان كان مسوغا جديدا له لكي يستزيد من الحرمان والضغط وصنوف القساوة والشدة في البرنامج الذي رسم للتصنيع وللعمل الجماعي. ولكن عندما بدا للناس كأن لقاء ميونيخ قد نهنه من طغيان هتلر، وجه استالين سياسته الخارجية مرة أخرى وجهة ثانية، وتفاوض مع ألمانيا في إبرام ميثاق لعدم الاعتداء حتى يستغل عدوان هتلر في الدفاع عن الدولة الروسية الجماعية وبسط نفوذها. وكان للميثاق فيما يبدو ميزتان: الدفاع، بما تضمن من وعد بحياد السوفيت، مما أجاز اعتداء النازي على بولندا دون نشوب حرب في جبهتين؛ ثم التوسع، بما تضمن الميثاق من تقسيم بولندا، وتقسيم شرقي أوروبا إلى مجالات نفوذ معينة. ويبدو أن استالين كان يعتقد أن اتفاقه مع هتلر سوف يدوم؛ ومن ثم فقد ذهل عندما وقع الهجوم الألماني على الاتحاد السوفيتي ولم يكن مستعدا لمقابلته. وما إن حل عام 1941 حتى كان الجيش الأحمر قد تحمل من النكبات ما يفوق تلك الكوارث التي أدت إلى سحق الجيش القيصري. وما إن أشرف عام 1941 على نهايته حتى تمكن الضباط الألمان من رؤية ضواحي موسكو من خلال المناظير، ولكن روسيا بفضل معونة الغرب الرأسمالية استطاعت أن تنجو من محنة الحرب وتصد الجيش الألماني الذي قرع أبواب ستالنجراد، وظهرت كأنها «مخلصة الحضارة من الوحشية الهتلرية».
ولم يتردد استالين في أن يستغل السمعة العريضة التي اكتسبها إبان الحرب في دفع أهدافه الشيوعية إلى الأمام. ولما كان يؤمن بالنظرية التي تؤكد ضرورة نشوب نزاع آخر، وضرورة التوسع في قوى الإنتاج حتى تنتصر الشيوعية، فقد استغل جبهة الغرب بالسياسة، والإنهاك والتعب الذي خلفته الحرب في العالم، والمكانة الممتازة التي بلغها الجيش الأحمر في نهاية الحرب، استغل ذلك كله في تعزيز نفوذ الشيوعية في شرقي أوروبا وفي وسطها وفي البلقان، وفي مطالبته بأن يكون لروسيا صوت في تسوية الأمور في ألمانيا وفي منشوريا وغيرهما من بقاع الأرض. وتبينت الخصومة القديمة ضد الحلفاء السابقين في الخلافات التي نشبت عقب الحرب بشأن تقسيم أوروبا؛ لأن استالين لا يرى حكومة صديقة له سوى تلك التي يديرها الحزب الشيوعي، ولا يرى مجالا للنفوذ إلا للسيطرة الشيوعية المطلقة. ومنذ عام 1945 أخذ الشيوعيون يجمعون مكاسبهم في بلدان شرقي أوروبا، ويزحفون بقواهم إلى الأمام حتى توقفت عند اليونان وبرلين وكوريا ويوغوسلافيا. وقد دفع منطق النظام الروسي الولايات المتحدة إلى أن تتزعم خصوم المعسكر الاشتراكي، واستطاعت أن توقف زحف النفوذ الشيوعي الكامل على آسيا وأوروبا، وهو ما كان يحلم به استالين بعد الحرب.
وبعد هذا الاستعراض للنظرية الشيوعية ووضعها موضع التنفيذ، يجدر بنا أن نفسر السياسة الراهنة التي ينتهجها الزعماء الشيوعيون، وأن نقدر أهميتها كعامل أساسي من عوامل الأزمة العالمية الحاضرة. لقد حدثت منذ وفاة استالين تغيرات متعددة لا تدل على ازدياد المرونة في التنفيذ تحت الظروف الجديدة، دون إحداث أي تغير أساسي في أهداف الشيوعية. ومثال ذلك أن تصرف السوفيت لم يعد ينم - كما كان من قبل - على الرغبة في إحداث أزمة اقتصادية عنيفة في الدول الرأسمالية الكبرى بعد الحرب. كما أن التوتر الداخلي قد خفت حدته بسبب ارتفاع مستوى التنمية الاقتصادية داخل الاتحاد السوفيتي، وبسبب وجود قوة عاملة ماهرة نشأت وترعرعت في ظل نظام بات يمثل إحدى الدولتين العظيمتين في العالم.
ومن التطورات التي حدثت أيضا التحول من نظام التحكم الفردي إلى نظام الزعامة الجماعية.
وهذه المرونة الجديدة في التنفيذ تبدو كذلك في سياسة روسيا الخارجية. ومن العوامل الهامة في ذلك وجود حزب شيوعي متحالف في الصين؛ فبعدما كان استالين لا يسمح بارتباط أخوي بين الأحزاب الشيوعية، وإنما يريد السلطان المطلق للحزب الشيوعي الروسي، يرى الزعماء الجدد ميزة كبرى - بل ضرورة ملحة - في التحالف مع زعماء الحزب الشيوعي الصيني، بسبب قوة نفوذه وبعد تأثيره في آسيا.
अज्ञात पृष्ठ