الفصل الثالث عشر
سدني هوك
(1902م-...)
يخطئ الطالب اللامع الذي لا يتخصص في الفلسفة إذا هو أقبل على فصل دراسي يلقي فيه الأستاذ هوك إحدى محاضراته؛ لأن الأرجح أن يتحول هذا الطالب إلى دراسة الفلسفة قبل أن يدق الناقوس الذي يؤذن بانتهاء المحاضرة.
سدني هوك - وهو أحد الفلاسفة الطبيعيين في الولايات المتحدة - لديه موهبة يحسد عليها في عرض الرأي عرضا مؤثرا، فهو يجمع في إلقائه بين التحليل الواضح المتفقه في العلم، والفكاهة، والبصر بنفوس الناس. وهذه الصفات العديدة قلما تتوافر في المزاج الفلسفي.
ولد سدني هوك في نيويورك في العشرين من ديسمبر عام 1902م، وقضى طفولته في بروكلن حيث التحق بالمدارس العامة المحلية، وفي كلية المدينة بنيويورك درس الفلسفة مع موريس رفائيل كوهين، ثم التحق بمدرسة المتخرجين في جامعة كولمبيا عام 1923م حيث ترك فيه جون ديوي أثرا لا يمحى. وفي عام 1924م أصبح هوك دارسا جامعيا. وفي عام 1926-1927م منح إحدى الزمالات الجامعية في الفلسفة التي يتطلع إليها الكثيرون. وفي نهاية هذا العام حصل على درجة الدكتوراه، وفي العام التالي ظفر بزمالة جونجهيم التي تخول له الدراسة في برلين وميونيخ ومعهد ماركس إنجلز بموسكو. وبعد عودته إلى الولايات المتحدة بدأ في علاقاته التعليمية التي دامت أمدا طويلا مع جامعة نيويورك، حيث دخلها كمعلم للفلسفة بكل ميدان واشنطون عام 1927م، وأصبح مساعد أستاذ في عام 1932م، وأستاذا زميلا ورئيسا للقسم في عام 1933م، وظل أستاذا لبضع سنين بعد ذلك. وفي عام 1947م عينته مدرسة المتخرجين بجامعة نيويورك رئيسا لقسم الفلسفة، وفي عام 1948م رئيسا لقسم الفلسفة وعلم النفس، وبقي سنوات عدة يؤدي هذا العمل، محاضرا لجموع كبيرة من المستمعين بالمدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي في الفلسفة المعاصرة وعلم الأخلاق والفلسفة الاجتماعية.
إن حياة سدني هوك العملية نشيطة نشاطا غير مألوف، متنوعة في اهتماماتها. كتب كثيرا من الكتب والمقالات الهامة في الفلسفة، ونظريات التربية، والنقد الاجتماعي، وفلسفة التاريخ، وسياسة الديمقراطية. وظهر اهتمامه مبكرا بهيجل وماركس في كتابين أصدرهما؛ الأول بعنوان «نحو إدراك كارل ماركس» في عام 1933م الذي قيل إنه «خير عرض لفلسفة كارل ماركس الاجتماعية باللغة الإنجليزية»، والثاني تحت عنوان «من هيجل إلى ماركس» في عام 1936م. ولكن اهتمام هوك بالماركسية كان يخلي السبيل فيما بعد عام 1930م لاهتمام أشد عمقا بالدراسات القديمة في المذهب البراجمي الأمريكي، وبخاصة بالمذهب العملي الذي بشر به ديوي، وانعقدت أواصر صداقة وثيقة بين الفيلسوف المسن والزميل الشاب، واشترك هوك في العمل مع ديوي اشتراكا مباشرا في كثير من مخطوطاته في هذه السنوات وما تلاها. وفي عام 1939م حينما أقبل ديوي على الثمانين من عمره، نشر هو كتابه «عرض لآراء جون ديوي»، الذي ما برح حتى اليوم أحسن عرض لأفكار ديوي الأساسية، وظهرت له مجموعة مقالات في الفلسفة السياسية عام 1940م عالج فيها «العقل، والأساطير الاجتماعية، والديمقراطية»، كما ظهر له في عام 1943م «بطل التاريخ» الذي نال به هوك وسام بتلر الفضي في عام 1945م من جامعة كولمبيا، ووصفت براءة الوسام الكتاب بأنه «جهد هام في المحاولات الأخيرة لتفسير التاريخ من وجهة المذهب الطبيعي الأمريكي والمذهب التجريبي». والكتاب الهام الذي أخرجه هوك بعد ذلك هو «التربية لإنسان العصر الحديث» عام 1946م، وهو دفاع ملهم الفلسفة التربوية الحرة في أمريكا في عصر بلغت فيه القمة تجارة «الكتب العظيمة» وبروجرام كلية سنت جون.
وقد اتجه هوك بجهوده نحو التبشير بحيوية الحرية التي يعارض بها الشيوعية، وفي هذا أصدر أخيرا كتابين؛ أحدهما «زندقة لا مؤامرة» في عام 1953م، وهو دراسة للحرية الثقافية في الولايات المتحدة عالج فيها مذهب الحرية ليخرج منه بنقد الشيوعية نقدا لاذعا؛ والآخر كتاب «الرأي العام والتعديل الخامس» في عام 1957م، وهو دراسة لمادة «اتهام النفس» في القانون، كتبت، كما قال المؤلف، من وجهة نظر «مذهب الحرية الذي لم يدخله تعديل، وهو المذهب الذي يعترف بتفوق الأخلاق على القانون وتركيز التفكير في الأخلاق». وبعد سنوات عدة قضاها هوك في الكتابة والتبشير بالمبادئ الأساسية للتفكير والبحث المستقل، رأى الحاجة إلى تكوين مؤسسة للدفاع عن الحرية العقلية ضد الخداع الذي لا ينقطع والاعتداء الواقع على الديمقراطية الذي يصدر عن أوكار الشيوعية والأركان التي تعطف عليها، فتأسست لجنة الحرية الثقافية، وكان أول رئيس لها سدني هوك، ولهذه اللجنة الآن تسع «جماعات وطنية» تابعة للجنة الأمريكية. (1) المذهب الطبيعي والديمقراطية
سدني هوك (1-1) فتور الحماسة
في الفصل الثالث الشهير من كتاب «أربع مراحل في الديانة الإغريقية» يقول جلبرت مري: «إن الفترة التي تقع بين عام 300ق.م. والقرن الأول المسيحي تتميز ب «فتور الحماسة»، وقد تبين هذا الفتور في ظهور الزهد والتصوف، أو التشاؤم بمعنى من معانيه، يتميز بفقدان الثقة بالنفس، والأمل في هذه الحياة، والإيمان بالجهود البشرية المألوفة، يتميز باليأس من الأناة في البحث، والحاجة إلى وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه، كما يتميز بعدم المبالاة برفاهية الدولة، والارتداد عن دين الله.»
अज्ञात पृष्ठ