7 (1-6) الحب وقوة النفس
إذا كانت الأيام مظلمة أمامنا، فيجب أن نذكر وهي ماثلة أمام أعيننا مسير الإنسان البطيء الذي كانت تعترضه في الماضي الكوارث والتخلف، ولكنه يواصل دائما حركته نحو التقدم. وقد نصح اسبينوزا - الذي كان من أحكم الناس، والذي عاش حياة متفقة مع حكمته - نصح الناس أن ينظروا إلى الحوادث الجارية «من زاوية الخلود». وأولئك الذين يستطيعون أن يتعلموا ذلك سوف يجدون الحاضر الأليم أكثر في نفوسهم احتمالا منه لو تغيرت زاوية النظر. إنهم يرونه برهة «عابرة»، يرونه مشكلة تحل، وقناة تعبر. إن الطفل الصغير الذي يجرح نفسه يبكي كأن الدنيا ليس فيها غير الأحزان؛ لأن عقله ينحصر في الحاضر. أما الرجل الذي تعلم الحكمة من اسبينوزا فيستطيع النظر إلى حياته حتى لو كانت كلها آلاما باعتبارها لحظة عابرة في حياة الإنسانية. والجنس البشري نفسه من بدايته الغامضة حتى نهايته المجهولة ليس إلا حادثا ضئيلا في حياة الكون.
إننا لا نعرف ما قد يكون حادثا في مكان آخر غير الكون، ولكن ليس من المحتمل ألا يحتوي الكون شيئا أفضل من أنفسنا. وبازدياد الحكمة تكتسب أفكارنا مجالا أفسح في المكان والزمان. إن الطفل يعيش في لحظته، والصبي في يومه، والرجل الغرزي في عامه، والرجل الذي يعي التاريخ يعيش في حقبته. ولا يريد اسبينوزا أن نعيش في اللحظة أو اليوم أو العام أو الحقبة، وإنما يريدنا أن نعيش في الأبدية. وأولئك الذين يتدربون على ذلك سوف يجدون أنه يزيل صفة الهلع من سوء الحظ، ويحول دون الاتجاه نحو الجنون الذي يجيء مع الكوارث الملمة. ولقد قضى اسبينوزا آخر يوم من أيام حياته يروي لضيوفه أبهج القصص، وكتب يقول: «إن الرجل الحر يفكر في الموت أقل مما يفكر في أي أمر آخر، وحكمته تأمل في الحياة لا في الموت.» ولقد قام بتنفيذ هذا المبدأ حينما أقبل عليه الموت.
ولست أعني أن الرجل الذي يتحرر من عسف الجهالة يخلو من العواطف، كلا؛ فهو على العكس من ذلك يحس الصداقة وفعل الخير والرأفة على مستوى أعلى من الرجل الذي لم يحرر نفسه من الهموم، ولن تقف ذاته حائلا بينه وبين بقية البشر، ولكنه سوف يحس كما أحس بوذا أنه لن يكون كامل السعادة ما دام هناك فرد بائس، وسوف يحس الألم - وهو ألم واسع وأكثر انتشارا من ألم المحب لذاته - ولكنه لن يجد هذا الألم مما لا يمكن احتماله، ولن يدفعه الألم إلى اختراع قصص خرافية مطمئنة تؤكد له أن آلام الآخرين وهمية، ولن يفقد الاتزان والتحكم في النفس، وسوف يردد قول ملتون:
العقل مكتف بذاته.
يجعل من النعيم جحيما، ومن الجحيم نعيما.
وسوف يذكر - فوق كل ذلك - أن كل جيل مسئول أمام الأجيال المقبلة عن الكنوز العقلية والخلقية التي جمعها الإنسان خلال العصور الماضية. حينما جن جنون الملك لير التقى بإدجار الذي تظاهر بالجنون، ولم يرتد سوى خرقة يتستر بها، وتجري الحكمة على لسان لير حينما يقول: «إذا جن جنون المرء فلا يعدو أن يكون حيوانا مسكينا، عاريا، بادي الساقين مثلما تبدو لي.»
وهذا بعض الحق فقط، أما بعضه الآخر فيجري على لسان هاملت حين يقول: «ما أعجب صنع الإنسان! وما أنبله في عقله! وما أعظم قدراته التي لا تحد! إنه يدعو إلى الإعجاب والدهشة في صورته وفي حركته! ما أشبهه بالملاك وهو يعمل! وما أشبهه بالإله وهو يفكر!»
والرجل السوفيتي - وهو يزحف على ركبتيه ليخدع أصدقاءه وأسرته ويقودهم إلى مجزرة بطيئة - ليس البتة جديرا بكلمة هاملت، وإن كان بالإمكان أن يكون الإنسان جديرا بها، ويستطيع كل منا أن يكون قمينا بها؛ ففي إمكان كل منا أن يوسع من أفق عقله، وأن يطلق خياله، وأن ينشر محبته وفعله للخير. وإنما تتطلع البشرية في نهاية الأمر إلى أولئك الذين يفعلون ذلك؛ فالشرق يقدس بوذا، والغرب يقدس المسيح، وكلاهما بشر بالمحبة باعتبارها سر الحكمة. وكانت حياة المسيح على الأرض معاصرة لحياة الإمبراطور تيبريس الذي قضى حياته في أعمال القسوة والاستهتار الشنيع، وكان تيبريس يتمتع بمظاهر العظمة والنفوذ، ترتعد فرائص الملايين إذا أومأ برأسه، ولا يذكره اليوم غير المؤرخين.
إن أولئك الذين يعيشون عيشة نبيلة - حتى إن كانوا يعيشون في عهدهم مغمورين - لا يخشون أن تذهب حياتهم هباء؛ فإن ضياء يشع من حياتهم نورا يهدي إلى الطريق أصحابهم وجيرانهم، وربما كان ذلك إلى عصور طويلة مقبلة. كم من رجل أقابل اليوم ممن يحس بوقع العجز شديد على نفسه، ويشعر بأنه ليس هناك في متسع المجتمعات الحديثة شيء ذو أهمية يستطيع الفرد أن يؤديه. وهذا خطأ؛ لأن الفرد إذا امتلأ قلبه بمحبة الناس، واتصف ببعد النظر، وبالشجاعة والصبر، يستطيع أن يفعل الشيء الكثير.
अज्ञात पृष्ठ