وهذا المذهب في الواقع هو أقل المذاهب عيبا، وأشد صرامة، وهو موجه بحذافيره إلى المختصين والفلاسفة، ومع ذلك فمن اليسير أن نعرفه. غير أن ما يعقد الأمور هو أن هناك نوعين من الوجودية؛ أولهما أولئك المسيحيون، ومنهم ياسبرز وجبريل مارسل، وكلاهما كاثوليكي؛ وهناك ثانيا الوجوديون الملحدون، ومنهم هيدجر، والوجوديون الفرنسيون وشخصي. والأمر الذي يشتركون فيه هو أنهم يعتقدون أن الوجود يسبق الماهية، أو إن شئت قلت إن الذاتية لا بد أن تكون نقطة البداية. ⋆ (1-2) الإنسان يصنع نفسه
الوجودية الإلحادية التي أمثلها تقول بأنه إذا لم يكن الله
1
موجودا، فهناك على الأقل كائن واحد يسبق وجوده ماهيته، كائن وجد قبل إمكان تعريفه على أية صورة ذهنية، وهذا الكائن هو الإنسان، أو هو - كما يقول هيدجر - الحقيقة البشرية. فماذا نعني هنا حينما نقول إن الوجود سبق الماهية؟ إننا نعني - أولا - أن الإنسان يوجد ويبرز ويظهر على المسرح، ولا يعرف نفسه إلا فيما بعد ذلك. وإذا كان الإنسان -كما يتصوره الوجوديون - لا يمكن تعريفه، فذلك لأنه في أول الأمر عدم ... ولن يكون شيئا ما إلا فيما بعد. وعندئذ يكون هو نفسه الذي صنع ما سوف يكونه. وهكذا ترى أنه ليست هناك طبيعة بشرية، ما دام ليس هناك إله يتصورها. وليس الإنسان فقط هو الصورة التي يرى نفسه عليها، وإنما هو أيضا ما يريد لنفسه أن يكون بعد اندفاعه هذا نحو الوجود.
ليس الإنسان إلا ما يصنع بنفسه، وهذا هو المبدأ الأول من مبادئ الوجودية، وهو أيضا ما يسمى الذاتية، وهو الاسم الذي نوصم به حينما توجه إلينا التهم. ولكن ماذا نعني من هذا، إذا كنا لا نعني أن للإنسان كرامة تفوق ما للحجر أو الخشب؛ لأنا نعني أن الإنسان يوجد أولا، أي إن الإنسان - قبل كل شيء - هو الكائن الذي يوجه نفسه صوب مستقبل ما، والذي يعي أنه يتخيل نفسه كائنا في المستقبل؟ الإنسان في مبدأ أمره خطة واعية بنفسها أكثر منه كتلة من الطحلب المتخلف، أو قطعة من نفايات اللحوم أو الخضر؛ إذ لا شيء يوجد قبل هذه الخطة. ليس في السماء شيء عنه، وإنما سوف يكون الإنسان ما رسم لنفسه أن يكون، وليس ما يريد أن يكون؛ لأنا بكلمة «الإرادة» نعني عادة قرارا واعيا يترتب على ما سبق أن صنعنا بأنفسنا؛ فقد أريد أن أنتمي إلى حزب سياسي، أو أن أكتب كتابا، أو أن أتزوج، غير أن هذا كله ليس إلا إظهارا لاختيار سابق أكثر تلقائية، نسميه «الإرادة». ولكن إذا كان الوجود يسبق الماهية فعلا، فالإنسان إذن مسئول عما هو عليه؛ فالدعوة الوجودية الأولى إذن هي أن تجعل كل امرئ واعيا بما هو عليه، وأن تلقي بالمسئولية الكاملة لوجوده على كاهله. وحينما نقول إن الإنسان مسئول عن نفسه، لا نعني أنه مسئول عن فرديته فحسب، وإنما نعني أنه مسئول عن الناس جميعا.
ولفظة الذاتية لها معنيان، وخصومنا يستغلون ما في اللفظة من تورية؛ فالذاتية تعني من ناحية أن الفرد يختار ويصنع نفسه، وهي تعني من ناحية أخرى أنه يستحيل على الإنسان أن يتجاوز الذاتية البشرية. والمعنى الثاني هو المعنى الأساسي للوجودية. وعندما نقول إن الإنسان يختار ذاته، فنحن نعني أن كلا منا يفعل ذلك، ولكنا نعني بذلك أيضا أنه عندما يقوم بهذا الاختيار فهو يختار كذلك جميع الناس. والواقع أننا عندما نخلق الإنسان الذي نريد أن نكونه، فليس هناك عمل واحد من أعمالنا لا يخلق في الوقت نفسه صورة للإنسان كما نعتقد أنه ينبغي أن يكون، واختيارنا أن نكون هذا أو ذاك هو تأكيد في الوقت نفسه لقيمة ما نختار؛ لأنا لا يمكن أن نختار الشر، وإنما نحن نختار الخير دائما، ولا يمكن أن يكون شيء ما خيرا لنا دون أن يكون خيرا للجميع.
وإذا كان الوجود - من ناحية أخرى - يسبق الماهية، وإذا سلمنا بأنا نوجد ونشكل صورتنا في نفس الوقت، فإن الصورة تكون صالحة لكل إنسان ولعصرنا بأكمله؛ ومن ثم فإن مسئوليتنا تفوق كثيرا ما قد نفترضه؛ لأنها تشمل الجنس البشري قاطبة؛ فإذا كنت عاملا وأوثر أن ألتحق بنقابة عمالية مسيحية على أن أكون شيوعيا، وإذا كنت بعضويتي أريد أن أبين أن خير الأمور للإنسان أن يستسلم، وأن مملكة الإنسان ليست في هذه الدنيا، وليس الأمر مما يخصني وحدي، وإنما أنا أريد أن أستسلم ممثلا في ذلك كل إنسان غيري؛ فعملي - نتيجة لذلك - يتضمن البشرية كلها. ولآخذ أمرا أخص من هذا: إذا أردت أن أتزوج وأن أنجب أطفالا - حتى إن كان هذا الزواج يتوقف كلية على ظروفي الخاصة، أو على عاطفتي، أو رغبتي - فإني أجر الإنسانية كلها إلى الزواج ولا أجر نفسي وحدها؛ ولذلك فأنا مسئول عن نفسي وعن كل إنسان آخر؛ لأني أخلق صورة معينة للإنسان كما أختاره بنفسي. وإني حين أختار نفسي، إنما أختار الإنسان عامة. (1-3) «الضيق» و«اليأس»
ويعيننا ذلك على أن ندرك المعنى الحقيقي لبعض الألفاظ المتحذلقة، كالضيق والخذلان واليأس. والأمر - كما سوف نرى - غاية في البساطة.
أولا: ماذا نعني بالضيق؟ يقول الوجوديون على الفور: الإنسان هو الضيق. ومعنى ذلك أن الإنسان الذي يقحم نفسه، والذي لا يدرك أنه ليس الشخص الذي اختار أن يكونه فحسب، وإنما هو كذلك وفي الوقت عينه واضع لقانون يختار به أفراد البشر جميعا كما يختار نفسه، هذا الإنسان لا يسعه أن يفر من الشعور بمسئوليته الشاملة العميقة. وليس من شك في أن هناك أفرادا كثيرين ليس بهم قلق، ولكنا نزعم أنهم يخفون قلقهم، وأنهم يفرون منه. وليس من شك في أن هناك أفرادا كثيرين يعتقدون أنهم حينما يعملون شيئا ما يحسبون أن ما يعملون يهمهم وحدهم، وإن قال لهم قائل: «وماذا لو أن كل شخص آخر صنع صنيعهم؟» هزوا أكتافهم، وأجابوا قائلين: «إن كل شخص آخر لا يصنع هذا الصنيع.» غير أن المرء - في الواقع - ينبغي أن يسأل نفسه هذا السؤال: «ماذا يحدث لو أن كل إنسان نظر إلى الأمور هذه النظرة؟» ولا مفر من هذه الفكرة المزعجة إلا بالخداع. إن الإنسان الذي يكذب ويقدم لنفسه المعاذير بقوله «إن كل إنسان لا يفعل ذلك» رجل غير مرتاح الضمير؛ لأن أداء الكذب يعني إعطاء الكذب قيمة عالمية.
إن الضيق حقيقة واقعة حتى حينما يختفي. وهذا هو الضيق الذي أسماه كركجارد ضيق إبراهيم، وأنتم تعلمون القصة: لقد أمر أحد الملائكة إبراهيم أن يضحي بأحد أبنائه. ولو أن الذي حدث فعلا أن ملكا جاء إلى إبراهيم وقال له «اذبح ابنك يا إبراهيم»، لكان كل شيء على ما يرام، ولكن أي امرئ قد يتعجب سائلا: «هل هو ملك حقا، وهل أنا حقا إبراهيم؟ أي دليل عندي؟»
अज्ञात पृष्ठ