وسيقول المؤرخون في المستقبل - فيما أظن - إن الحدث الأكبر في القرن العشرين كان تأثير المدنية الغربية في كل المجتمعات الحية الأخرى في العالم في ذلك الحين، سوف يقولون عن هذا التأثير إنه بلغ من القوة والشمول أنه قلب حياة كل من تعرض له رأسا على عقب وباطنا لظهر، وتشكل به سلوك الأفراد من الرجال والأطفال والنساء، ونظرتهم إلى الحياة ومشاعرهم ومعتقداتهم، حتى نفذ إلى صميم أفئدتهم، ومس فيها أوتارا لا يمكن أن تمسها القوى المادية الخارجية المجردة - مهما بلغت شدتها ودرجة إرهابها. ولست أشك في أن المؤرخين سيقولون بهذا وهم يرجعون بأبصارهم إلى زماننا حتى بعد فترة وجيزة من الزمان لا تتجاوز عام 2047 بعد الميلاد. أما مؤرخو عام 3047 بعد الميلاد فسوف يهتمون اهتماما شديدا - فيما أعتقد - بالآثار الرجعية القوية التي سوف يحدثها المتأثرون - بعدما يبلغون هذا التاريخ - في حياة أولئك الذين أثروا من قبل فيهم. وإذا ما حل عام 3047 فقد تتحول مدنيتنا الغربية - كما عرفنا وكما عرفها أسلافنا في الألف ومائتي أو الألف وثلاثمائة عام الأخيرة تقريبا، منذ خروجها من العصور الوسطى المظلمة؛ أقول قد تتحول هذه المدنية إلى صورة تطمس جميع معالمها، من أثر إشعاع مضاد يصدر عن العوالم الأجنبية التي نحن اليوم بصدد احتضانها في عالمنا، إشعاع مضاد يصدر عن المسيحية الأرثوذكسية، وعن الإسلام والهندوكية، وعن الشرق الأقصى.
وإذا ما حل عام 4047، فإن التفرقة بين المدنية الغربية مؤثرة والمدنيات الأخرى متأثرة - وهي تفرقة تبدو اليوم ضخمة كبيرة - سوف تبدو على الأرجح عديمة الأهمية. وبعدما يعقب الإشعاع إشعاع مضاد، سوف لا يبقى قائما إلى تجربة فريدة كبرى، يشترك فيها جميع أفراد البشر، وتلك التجربة هي تحطم الميراث الاجتماعي الإقليمي من أثر الصدام مع مواريث إقليمية لمدنيات أخرى، ثم إيجاد حياة جديدة - حياة مشتركة جديدة - تنبع من الحطام المتخلف. سوف يقول مؤرخو عام 4047 بعد الميلاد إن أثر المدنية الغربية في المدنيات المعاصرة لها، في النصف الثاني من الألف عام الثانية من بعد ميلاد المسيح، كان أهم سمات العصر؛ لأنه كان الخطوة الأولى نحو توحيد الجنس البشري في مجتمع واحد.
6 (1-5) تغير النظرة التاريخية
إذا نظرنا إلى التاريخ بهذه العين، تحتم على مؤرخي هذا الجيل ومؤرخي الأجيال القادمة - فيما أحسب - أن يقوموا بهذا الواجب إذا أردنا أن نؤدي الخدمة التي بوسعنا أن نؤديها - كاملة - لإخواننا في الإنسانية. أعني تلك الخدمة الهامة، خدمة معاونتهم على إيجاد العلاقات فيما بينهم وبين أنفسهم في عالم موحد، إذا أردنا ذلك تحتم علينا إعنات الخيال وتصميم الإرادة على شق طريقنا خلال أسوار السجن الذي تحبسنا فيه تواريخ أقطارنا وتواريخ ثقافاتنا - تلك التواريخ المحلية القصيرة المدى.
7
ولست شخصيا أعتقد أن هذه النظرية التقليدية التاريخية الغربية العتيقة سوف تبقى طويلا بعد اليوم. ولست أشك أننا سوف نتجه وجهة جديدة في المستقبل، وأعتقد أننا سوف نتجه نحو الشرق مرة أخرى. ولكن لماذا ننتظر حتى يمسكنا التاريخ من رقابنا ويلفت رءوسنا إلى الأمام، ويعاملنا كما كان جندي التدريب البروسي في القرن الثامن عشر يعامل مرءوسيه من الجنود؟ ولو أن جيراننا قد أعيد تدريبهم حديثا بهذه الطريقة المذلة المنفرة، إلا أنه ينبغي لنا بالتأكيد أن نكون أحسن منهم تصرفا؛ لأننا لا نستطيع الزعم بأننا أخذنا على غرة، كما أخذوا. إن الحقائق تجابهنا صراحة، ولو استخدمنا خيالنا التاريخي ربما استطعنا أن نتنبأ بالتربية الإجبارية التي بدأت فعلا تسير نحو صفوفنا؛ فقد كان الفيلسوف الروائي كلنثيز يدعو زيوس والقدر أن يمكناه رحمة به من السير في إثرهما بإرادته دون تخلف «لأني» - كما قال - «إذا صرخت أو عصيت فسوف تتحتم علي الطاعة رغما عني».
8
ماذا يجب علينا إذن أن نعمله - نحن أبناء الغرب - إذا تمنينا - كما تمنى كلنثيز - أن نسير في إثر زيوس والقدر مستخدمين ذكاءنا وممارسين لإرادتنا، بدلا من أن نكره هذه الآلهة على أن تخضعنا بطريقة الإرغام المذلة؟
أقترح أولا أن نعيد توجيه نظرتنا التاريخية على الأسس التي أعاد عليها الممثلون المثقفون للمجتمعات الأخرى الشقيقة نظرتهم خلال هذه الأجيال القليلة الأخيرة. إن المعاصرين لنا من غير أبناء الغرب قد أدركوا أن تاريخنا الماضي قد أمسى جزءا حيا من تاريخهم نتيجة لتوحيد العالم الذي تم أخيرا. وعلينا إزاء ذلك نحن الغربيين - الذين لا تزال عقولنا تغط في نعاسها - أن ندرك الآن من ناحيتنا أنه بفضل الثورة ذاتها - وهي ثورة نحن الذين أحدثناها - سوف يصبح ماضي جيراننا جزءا حيا من مستقبل الغرب.
ونحن إذ نوقظ أنفسنا لكي نبذل هذا الجهد في الخيال لا يتحتم علينا أن نتحرك من نقطة البداية. لقد عرفنا واعترفنا دائما بديننا لليونان وروما. بيد أن هذه المدنيات قد بادت بطبيعة الحال. كما استطعنا أن نعترف بالجميل لها دون أن نتزحزح عن موقفنا التقليدي الذي نحفظ لأنفسنا فيه أقدارها؛ لأنا كنا نسلم دائما - في العمل الذي فرضته علينا أنانيتنا - بأن نفوسنا النبيلة تكفي تبريرا للمدنيات «البائدة». تصورنا أن هذه المدنيات قد عاشت وماتت من أجل تمهيد الطريق لنا - تمثل دور يوحنا المعمدان إذا فرضنا أننا نحن الذين نمثل دور المسيح (وأستميح القراء عذرا في هذه الموازنة التي تتعرض للدين، ولكنها في الواقع تبرز في وضوح مقدار انحراف نظرتنا بدرجة مريعة).
अज्ञात पृष्ठ