1
إن نظرة شاملة إلى الرقعة التاريخية في ضوء ما نعلمه اليوم، تبين أن التاريخ - حتى اليوم - قد أعاد نفسه عشرين مرة تقريبا، وفي كل مرة يتمخض عن مجتمعات بشرية من النوع الذي ينتمي إليه مجتمعنا الغربي، كما تبين أيضا أن هذه المجتمعات التي نسميها المدنيات - ربما فيما خلا المدنية الحاضرة - قد بادت فعلا أو هي في دور الاحتضار. ثم إننا - فوق ذلك - حينما ندرس تاريخ هذه المدنيات البائدة أو العليلة تفصيلا، ونقارن بين إحداها والأخرى، نجد ما يدل على وجود ما يشبه النموذج المتكرر في طريقة انهيارها وتدهورها وسقوطها. ونحن نتساءل اليوم بطبيعة الحال، إن كان لا مناص لهذا الفصل المعين من التاريخ من أن يعيد نفسه في حالتنا الراهنة: هل هذا النمط المتكرر في التدهور والسقوط ينتظرنا بدورنا باعتباره قدرا محتوما لا أمل لحضارة من الحضارات في الفرار منه؟ إن الإجابة على هذا السؤال - في رأي الكاتب - هي بالنفي بكل تأكيد. إن الجهد الذي يبذل لخلق صورة جديدة من صور الحياة - سواء أكانت نوعا جديدا من الحيوانات اللافقرية أو نوعا جديدا من المجتمع الإنساني - قلما، بل يستحيل أن ينجح في المحاولة الأولى؛ فليس الخلق عملا هينا بكل هذه السهولة. إنما يبلغ نجاحه النهائي بعد عدة محاولات تتعثر في الزلل والخطأ. ويترتب على ذلك أن الفشل في التجارب السابقة، لا يحتم فشل التجارب اللاحقة بدورها بالطريقة عينها، بل إنه ليهيئ الفرصة لهذه التجارب الأخيرة لكي تحقق النجاح عن طريق الحكمة التي يمكن أن تكتسب من أسباب الفشل. إن تتابع الفشل فيما مضى لا يكفل النجاح بطبيعة الحال للمرحلة اللاحقة، كما أنه لا يحتم عليها الفشل بدورها. وليس هناك ما يمنع حضارتنا الغربية من أن تتأثر بسوابق التاريخ - إن هي شاءت - فتنتحر انتحارا اجتماعيا. بيد أنه لا يتحتم علينا أن نحكم على التاريخ بأن يعيد نفسه. وأمامنا الفرصة أن نوجه التاريخ في عصرنا - بجهدنا - وجهة جديدة غير مسبوقة. ولقد وهبنا باعتبارنا بشرا هذه القدرة على الاختيار ، وليس بوسعنا أن نلقي تبعاتنا على الطبيعة أو على الآلة، بل ينبغي لنا أن نواجه مسئولياتنا، والأمر مفوض لنا.
2 (1-2) الموقف الدولي الحاضر
ما هي القضية التي تثير هذا القلق اليوم في كل أرجاء العالم؛ بين الأمريكان والكنديين، وبين أنفسنا وجيراننا الأوروبيين والروس ...؟ سوف أقدم إليكم رأيي الشخصي، وهو رأي - كما سوف ترون - يقبل الجدل. عقيدتي الشخصية أن هذه القضية المفزعة قضية سياسية، وليست قضية اقتصادية. ولست أعتقد أن هذه القضية السياسية لا تتعلق بالوحدة السياسية للعالم في المستقبل القريب. إني أعتقد أن العالم سوف يتحد سياسيا في المستقبل القريب على أية صورة من الصور، وأن هذه النتيجة قد انتهينا من الوصول إليها. ولعل هذه العقيدة فيما أظن هي أكثر مبادئي عرضة للجدل، ولكني لا أملك إلا أن أذكر ما أعتقده بأمانة وإخلاص (ولست أرى كيف يستطيع المرء أن يبلغ نتيجة غير هذه، إذا هو تدبر أمرين اثنين؛ مقدار اعتماد شعوب الأرض في وقتنا الحاضر بعضها على بعض، وقوة الفتك في أسلحتنا الراهنة؛ ثم ضم هذين الاعتبارين أحدهما إلى الآخر). أعتقد أن القضية السياسية الكبرى المفزعة الحقيقية اليوم لا تنحصر في الشك في وحدة العالم السياسية الوشيكة، بل في أي طريق من الطريقين الوحيدين الممكنين سوف تسير هذه الوحدة العاجلة.
فهناك الطريقة العتيقة المألوفة التي لا يستسيغها أحد، طريقة الحروب المتواصلة التي تبلغ نهاية مرة تستطيع عندها دولة حية كبرى أن تنقض على منافستها الأخيرة الباقية، ثم تفرض السلم على العالم بحق الغزو. هذه هي الطريقة التي وحدت بها روما بالقوة في القرن الأخير قبل الميلاد العالم الإغريقي الروماني، ووحدت بها إمارة «تسن» ذات العقلية الرومانية العالم في الشرق الأقصى في القرن الثالث قبل الميلاد. ثم هناك التجربة الجديدة، وهي الحكومة التعاونية العالمية - ولا أقول إنها طريقة جديدة كل الجدة - فقد كانت هناك محاولات فاشلة سابقة لإيجاد طريقة تعاونية للتخلص من المتاعب التي انتهت فعلا بفرض ميثاق السلم الروماني، وميثاق السلم السنيكي، عنوة وبالقوة. بيد أن متابعتنا لهذا الاتجاه - خلال الحياة التي عشناها - الذي يدعو إلى هذا الحل الموفق كانت أشد حزما، وأعمق في نفوسنا وعيا ، حتى إننا لنستطيع أن نعدها بحق بداية جديدة. وكانت المحاولة الأولى هي إنشاء عصبة الأمم، والمحاولة الثانية هي الأمم المتحدة. وواضح أننا في هاتين المحاولتين نشغل أذهاننا بمشروع سياسي مبتكر عظيم المشقة يشمل مجالا مجهولا إلى حد كبير. ولو نجح هذا المشروع، حتى إذا لم يفلح نجاحه إلا في أن ينقذنا من طريقة فرض السلام بالغزوات والحروب، أقول لو نجح هذا المشروح لفتح للبشرية آفاقا بعيدة، آفاقا لم تمتد إليها أبصارنا من قبل خلال الخمسة أو الستة الآلاف سنة الماضية التي شهدتنا ونحن نقوم بعدة محاولات لإقامة الحضارة.
وبعدما نحيي هذه البارقة من الأمل التي لمعت في الأفق، أرى أننا نحيد عن الصواب إذا نحن لم ندرك طول ووعورة الطريق الذي يصل ما بين هدفنا والموقف الذي نقفه اليوم. ولا يحتمل أن ننجح في التحول عن طريقة الاحتكام إلى نتائج الحروب إلا إذا وضعنا في اعتبارنا الظروف التي تدعو إليها لسوء الحظ.
وأول هذه الظروف السيئة التي تتحتم علينا مجابهتها هو أن عدد الدول الكبرى ذات القوى المادية العظمى - إذا نحن قسنا هذه القوى بمجرد القدرة على القتال - قد انخفض من ثمان إلى اثنتين؛ فالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يتقابلان اليوم وجها لوجه وحدهما في ميدان القوى السياسية المجردة. وإذا نشبت حرب عالمية أخرى فالأرجح ألا تبقى سوى دولة واحدة تقوم بتوحيد العالم بالطريقة العتيقة، طريقة فرض الغازي حكمه وإرادته.
وهذا الهبوط السريع المذهل في عدد الدول الكبرى ذات القوى المادية العظمى يعزى إلى الوثبة المفاجئة في معيار الحياة المادي، الذي دعا إلى انكماش دول ضخمة مثل بريطانيا العظمى، وفرنسا أصبحت ضئيلة بالقياس إلى دول مثل الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وقد حدث مثل هذه الوثبات المفاجئة من قبل في التاريخ؛ فمنذ نحو خمسمائة أو أربعمائة عام تضاءلت دول ضخمة مثل البندقية وفلورنسة بالظهور المفاجئ لدول أضخم مثل إنجلترا وفرنسا.
وهذا التضاؤل الذي أحدثته للدول الأوروبية الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كان لا بد من حدوثه - من غير شك - على أية حالة من الحالات في أي وقت من الأوقات؛ فهو في رأيي نتيجة نهائية حتمية لاتساع الرقعة الأرضية أخيرا في روسيا وأمريكا الشمالية، ولنمو الموارد فيهما الذي حدث بعد ذلك نتيجة لتطبيقهما - على نطاق واسع - للوسائل الفنية التي تم اختراع بعضها في معامل غرب أوروبا. غير أن الوقت الذي تطلبته هذه العملية الحتمية كان ربما يستغرق نحو مائة عام، لولا أنه اختصر إلى ثلث أو ربع هذا المدى بسبب تجمع آثار حربين عالميتين. ولولا التعجل الذي لازم أحداث هذا التغير لتمت العملية تدريجيا بحيث تسمح لكل الأطراف المعنية بتكييف نفسها طبقا لها دون معاناة تذكر. ونتيجة للعجلة التي أحدثت بها الحربان العالميتان هذه العملية، كانت العملية ثورية وضعت كل جهة من الجهات في حيص بيص.
3 (1-3) الحرب والطبقات في حضارتنا
अज्ञात पृष्ठ