إن فينا نقصا، شيئا يشبه الانتظار، ويشبه الاستعداد. والفلسفة ناقصة، ويجب عليها أن تدرك هذه الحقيقة، إذا هي شاءت ألا تهبط إلى مستوى المغالطة. إننا نهيم في ظلام المستقبل، على حذر من أعداء الحقيقة، عاجزين عن التخلي عن تفكيرنا الشخصي، طاعة لمعرفة تفرض علينا. ولكنا فوق هذا وذاك مستعدون إلى الإصغاء والرؤية عندما تنير طريق الحياة مرة أخرى الأفكار العميقة والرموز التي تحقق الأغراض.
والتفلسف يؤدي في غضون ذلك واجبا أساسيا على أية حال من الأحوال، فإن مما يجدينا نفعا من الناحية الفكرية أن نقاوم السخافات والمغالطات والانحرافات، وادعاء الملكية الكاملة للحق التاريخي، والتعصب الأعمى. الفلسفة تقودنا على طول الطريق إلى النقطة التي تكتسب فيها المحبة عمقها بالاتصال الحقيقي. وعندئذ - بهذه المحبة، وعن طريق نجاح الاتصال - تتكشف الحقيقة التي تربط بيننا جميعا لأولئك الذين يباعد بينهم اختلاف نشأتهم التاريخية.
إن الأفراد اليوم حقائق محسة. ومن يريد أن يعيش في مجتمع من كائنات بشرية لكل منها كيانها، مجتمع غير مغلق وغير منظم ولا يخضع لإمكان التنظيم، من يريد أن يعيش فيما كان يسمى ب «الكنيسة» غير المنظورة، إنما يعيش في الواقع اليوم كفرد يتحالف مع غيره من الأفراد المنتشرين فوق سطح الأرض، وهو تحالف يقوى على احتمال كل الكوارث ويعيش رغما عنها، وهو نوع من اعتماد الفرد على غيره اعتمادا لا يرتبط بميثاق أو بأمر معين، إنه يعيش في حالة من عدم الاكتفاء الكامل، ولكنه عدم اكتفاء جماعي، وهو يسعى في عناد مع غيره إلى طريق الصواب في هذه الدنيا لا خارجا عنها. هؤلاء الأفراد يتقابلون ويتبادلون المشورة والتشجيع، إنهم ينبذون هذا التأليف الحديث بين المضمون الفذ للإيمان وممارسة الواقعية التي تدعو إلى مذهب العدم؛ فهم يعلمون أن الواجب الملقى على عاتق الإنسان هو أن يحقق في هذه الدنيا ما يمكن للإنسان، كما يدركون أن هذا الممكن ليس فريدا منعزلا، بل إن من واجب كل فرد أن يعلم أين يقف ولأي غرض يعمل، وكأن كل فرد قد لقي من الرب تكليفا بالعمل والعيش من أجل الانطلاق الذي لا حد له، ومن أجل العقل المعتمد، والحق والمحبة والإخلاص، دون الالتجاء إلى القوة التي تميزت بها الدول والأديان التي يتحتم علينا العيش في ظلها، والتي نحب أن نقف في وجه ما تتصف به من عدم الاكتفاء.
11 (1-10) أي شيء بعد ذلك له قيمة حقيقية؟
أي شيء إذن ضروري إذا كان من الجائز أن تكون نهاية كل شيء نحبه وشيكة الوقوع؟ ما هي المعايير ما برحت لها قيمتها إذا كانت نهاية كل شيء تقترب منا؟
يبدو لنا أنه دون كرامة الإنسان أن يتردد بين خوف هدام - خوف يشمل كل ضرب من ضروب النشاط - وبين انسياق أعشى ننسى فيه أنفسنا، انسياق تستمر فيه عادات التفكير القديمة، انسياق له يعد فيه الحب هو الباعث على الحياة الفكرية، ولكنها حياة فكرية مضمونها الوحيد انشغال بغير هدف وبغير تفكير، حيث يؤدي العمل من أجل العمل فحسب، بغض النظر عن الهدف الذي يخدمه في نهاية الأمر.
وواجب العقل في وجه هذا الخطر الذي يهددنا هو أن يحتمل التوتر، وأن يؤدي ما هو ضروري، فيخضع حياته اليومية للمعايير المستنيرة، وأن يواصل بغير ملل نشاطا لا يكون ممكنا بالضرورة إلا على أساس بعيد المدى. ولا يدري أحد أهو يؤدي إلى النجاح، أم إن الإخفاق هو معناه الحقيقي ونهايته المحققة ؟ غير أن «العقل» لن يفقد الأمل في موقف لا يبشر بالرجاء فيما يبدو. إن كل من يعمل في عالم العقل لا بد أن يقول لنفسه: ما دمت حيا وسط الأحداث المزعجة، فأنا مصمم على أن أكون مستعدا بقدر ما أستطيع. إنني أحاول أن أبني حياة من النشاط الباطني تسير نحو هدف حددته عبقريتي الممتازة، هدف ليس واضحا كل الوضوح، ولكنه واضح من حيث الخطوة التي يجب اتخاذها اليوم في ظل ظروف الحياة الواقعية.
من واجبنا أن نملأ الوقت الحاضر بمضمون ما؛ فالوقت لم يعط لنا لكي نهمله، ولن يكون للمستقبل معنى إلا بحاضر نعيشه عيشة كاملة. إن المستقبل يصبح ممكنا - دون قصد منا - إذا ما قام كل فرد منا بأداء كل ما يستطيع في حاضره.
أما إذا كانت حقائق الحياة البشرية التي يمكن لنا معرفتها بحثنا على أن نشك في «العقل»، فخليق بنا أن نقول إذا نحن أخذنا معيارنا من هذه الحقائق: إن من المعجزات أن تواصل الفلسفة سيرها خلال التاريخ، وإنها لم تختف كلية منذ ظهورها للعيان في أول أمرها ، ومن المعجزات أن تكون في «العقل» الذي يتحقق المرة تلو الأخرى في صورة الحرية قدرة على الاحتفاظ بنفسه. وإذا كان الأمر كذلك فالعقل إذن يشبه السر المفضوح الذي يمكن لكل امرئ أن يعرفه في أي وقت من الأوقات، وهو الفضاء الهادئ الذي يمكن لكل امرئ أن يلجه من خلال تفكيره الخاص.
12
अज्ञात पृष्ठ