अक़्वाम मसालिक
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك
शैलियों
صلى الله عليه وسلم
مع استغنائه عنها بالوحي الإلهي، وبما أودع الله فيه من الكمالات، فما ذاك إلا لحكمة أن تصير سنة واجبة على الحكام بعده، قال ابن العربي: «المشاورة أصل في الدين وسنة الله في العالمين، وهي حق على عامة الخليقة من الرسول إلى أقل الخلق.» ومن كلام علي رضي الله عنه: «لا صواب مع ترك المشاورة.» ومن الأصول المجمع عليها وجوب تغيير المنكر على كل مسلم بالغ عالم بالمنكرات. وقال حجة الإسلام الغزالي: الخلفاء وملوك الإسلام يحبون الرد عليهم ولو كانوا على المنابر. فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يخطب: أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه. فقام له رجل وقال: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا. فقال: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم اعوجاج عمر بسيفه. ولا شك أن مثل هذا الإمام العادل الشديد في حماية الدين وحقوق الخلافة لو لم ير مساغا من الشريعة لذلك الكلام، مع ما فيه من الشدة ما حمد الله عليه، بل كان الواجب رده وزجر قائله، وروى الغزالي أيضا في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من «الإحياء» أن معاوية حبس عطاء الناس، فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال: إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك. فقال معاوية بعد إسكان غضبه بالوضوء: صدق أبو مسلم، إنه ليس من كدي ولا من كد أبي، فهلموا إلى عطائكم.
قلت: لولا التغيير المشار إليه ما استقام للبشر ملك؛ لأن الوازع ضروري لبقاء النوع الإنساني، ولو ترك ذلك الوازع يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لم تظهر ثمرة وجوب نصبه على الأمة لبقاء الإهمال بحاله، فلا بد للوازع المذكور من وازع له يقف عنده؛ إما شرع سماوي أو سياسة معقولة، وكل منهما لا يدافع عن حقوقه إن انتهكت؛ فلذلك وجب على علماء الأمة وأعيان رجالها تغيير المنكرات، ونصب الأوروباويون المجالس وحرروا المطابع، فالمغيرون للمنكر في الأمة الإسلامية تتقيهم الملوك كما تتقي ملوك أوروبا المجالس وآراء العامة الناشئة عنها وعن حرية المطابع، ومقصود الفريقين واحد؛ وهو الاحتساب على الدولة لتكون سيرتها مستقيمة، وإن اختلفت الطرق الموصلة إلى ذلك. وما ذكرناه أشار إليه ابن خلدون في فصل الإمامة من مقدمته حيث قال: «إن الملك لما كان عبارة عن المجتمع الضروري للبشر ومقتضاه التغلب والقهر، اللذان هما من آثار القوة الغضبية المركبة في الإنسان، كانت أحكام صاحبه في الغالب حائدة عن الحق مجحفة بمن تحته من الخلق؛ لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من شهواته، فتسعر طاعته لذلك، وتجيء العصبية المفضية إلى الهرج والقتل، فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها، كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم. وإذا خلت الدولة عن مثل هذه السياسة لم يستقم أمرها ولا يتم استيلاؤها، فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية، وإذا كان فرضها من الله تعالى بشارع يقررها كانت سياسة دينية نافعة في الدنيا والآخرة.» انتهى.
قلت: والنفع المذكور إنما يكون تاما ببقائها محترمة بصونها والذب عن حوزتها بمثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أشرنا إليه. هذا وإنا لا ننكر إمكان أن يوجد في الملوك من يحسن تصرفه في المملكة بدون مشورة أهل الحل والعقد، ويحمله حب الإنصاف على الاستعانة بالوزير العارف النصوح فيما يشكل عليه من المصالح، لكن لكون ذلك من النادر الذي لا يعتبر لاستناده إلى أوصاف قلما تجتمع في إنسان، وعلى فرض اجتماعها ودوامها له تزول بزواله، وجب علينا أن نجزم بأن مشاركة أهل الحل والعقد للملوك في كليات السياسة، مع جعل المسئولية في إدارة المملكة على الوزراء المباشرين لها بمقتضى قوانين مضبوطة مراعى فيها حال المملكة أجلب لخيرها وأحفظ له.
وبيان ذلك أن حالة الملوك بمقتضى الطبيعة البشرية لا تخرج عن صور ثلاث: لأن الواحد منهم إما أن يكون كامل المعرفة والمحبة لخير الوطن قادرا على إجراء المصالح بمراعاة الأصلح، أو يكون كامل المعرفة ولكن له أغراض وشهوات خصوصية تصده عن مراعاة المصالح العمومية، أو يكون ناقص المعرفة ضعيف المباشرة. ومثل هذه الصور الثلاث يعتبر في الوزير المباشر، ولا يخفى أن لزوم المشورة ومسئولية الوزراء في الصورة الأولى لا يعطل كامل المعرفة عن مقصده الحسن، بل يعينه حيث إن آراء الجميع متعاضدة على المصلحة، كما أنه يسهل دوام الملك في عائلته، ولو كانوا من ماصدقات الصورتين الأخيرتين الواضح فيهما تأكد المشورة والمسئولية لوجوب المعارضة في الثانية والإعانة في الثالثة، فبذلك يستقيم حال المملكة، ولو كان الوالي أسير الشهوات أو ضعيف الرأي، كما قال المترجم لتاريخ ستورد مل الإنكليزي: إن رفعة شأن الأمة الإنكليزية بلغت الغاية في مدة الملك جورج الثالث الذي كان مجنونا، وما ذاك إلا بمشاركة أهل الحل والعقد ومسئولية الوزراء لهم.
وقد يسبق إلى بعض الأذهان الضعيفة أن تكليف من تحسن سيرته من الوزراء ينجبر به خلل الصورتين الأخيرتين، بحيث لا يحتاج لأهل الحل والعقد. وهو ظاهر السقوط؛ لأن تقديم الوزير للمباشرة وتأخيره عنها بيد الملك، ولا يظن أن الملك يقدم من يعلم أنه يخالفه مخالفة معتبرة. وعلى فرض تقديمه وسيره سيرة مستحسنة فإنا نرى أن حال الوزير دائر بين أمرين؛ لأنه إما أن يوافق الملك وحاشيته على أغراضهم وشهواتهم مرجحا بذلك حظ نفسه، وضرر المملكة في هاته الحالة لا يكاد يخفى، وإما أن يخالفهم ويأمر من تحته من المتوظفين بما تقتضيه مصلحة البلاد، وحينئذ فمن أين له هذا الحق؟ وبأي ظهير يستظهر على تلك المخالفة؟ خصوصا إذا لم تكن هناك شريعة نافذة تحميه من تحزب حساده الذين غاية أملهم إضراره وتعطيل تصرفاته الحسنة المقللة لفوائدهم بكل وجه أمكنهم ، ولو بتنفيذ إذنه على غير مقصوده أو تأخيره عن الوقت المناسب؛ ليظهر الخلل ويكثر الزلل، أو بإخفاء جليل حسناته وإشهار حقير سيئاته لتغيير القلوب عليه. ومن دعاء علي رضي الله عنه: «اللهم احفظني من عدو يرعاني؛ إن رأى مني حسنة دسها، وإن رأى سيئة أشهرها.» ثم إذا خيب الله آمالهم بنجاح سعي الوزير المشار إليه في إدارة المملكة رجعوا إلى سلوك طريق الوشاية به عند الملك، بأن يقولوا: إنه استبد عليك ولم يبق لك من الملك غير الاسم ... إلى غير ذلك من أنباء الفساق التي قد تروج على العاقل قبل التبين، خصوصا عند الدول المشرقية. فكيف يتيسر للوزير والحالة ما ذكر أن يجري إدارة المملكة على مواقع المصلحة مخالفا بذلك من هو الخصم والحكم؟! ولما في هاته الحالة الثانية من العوائق يضطر الوزير المذكور إما إلى اختيار الحالة الأولى بالمجاراة وسلوك طرق المداراة، وعاقبة ذلك وخيمة لعوده بالمضرة على الوطن والملك وعليه نفسه؛ لأن استعذاب الموافقة على الشهوة في الحال الناشئ عند خراب المملكة يستعقب مرارة الندامة في المآل. وإما إلى الاستعفاء من الخدمة بالمرة، وهو وإن لم يكن واجبا لحفظ ذاته فهو واجب للتخلص مما يتوقع من الموافقة على ما يئول إلى خراب المملكة الموجب لعقاب الخالق ولوم المخلوق؛ إذ الإنسان ولو ساغ له المخاطرة بنفسه لمصلحة الوطن لا يسوغ له المخاطرة بديانته وهمته، وما يجب عليه من الطاعة للملك والمحبة للوطن لا يحصلان إلا ببذل الجهد في النصح بجلب المصالح ودرء المفاسد إن قدر عليهما، وإن لم يقدر فبالامتناع من الموافقة على ما يضر، فإن لم يفعل كانت موافقته مع العلم بما ينشأ عنها من المضرة خيانة.
فبان بهذا أن الممالك التي لا يكون لإدارتها قوانين ضابطة محفوظة برعاية أهل الحل والعقد خيرها وشرها منحصر في ذات الملك، وبحسب اقتداره واستقامته يكون مبلغ نجاحها. ويشهد لذلك حالة الممالك الأوروباوية في القرون الماضية قبل تأسيس القوانين، فقد كان لهم في ذلك الوقت من الوزراء من لهم شهرة إلى الآن بتمام المعرفة والمروءة، ومع ذلك لم يتيسر لهم حسم مواد الخلل المنبعث من صورتي استبداد الملوك المشار إليهما، لا يقال إن مشاركة أهل الحل والعقد للأمراء في كليات السياسة تضييق لسعة نظر الإمام وتصرفه العام؛ لأنا نقول: هذا التوهم يندفع بمطالعة «الأحكام السلطانية» للماوردي، فإنه قال فيه عند بيان وزارة التفويض: «هي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده، وليس يمتنع جواز هذه الوزارة، فإن الله تعالى يقول حكاية عن نبيه موسى عليه السلام:
واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري . فإذا جاز ذلك في النبوءة كان في الإمامة أجوز.» انتهى.
قلت: فإذا جاز تشريك الإمام لوزير التفويض على الوجه المذكور ولم يعد مثل ذلك تنقيصا من تصرفه العام كان تشريكه لجماعة هم أهل الحل والعقد في كليات السياسة أجوز؛ لأن اجتماع الآراء إلى مواقع الصواب أقرب، ولهذا لما جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة شورى بين ستة قال: إن انقسموا اثنين وأربعة فكونوا مع الأربعة. (ميلا منه إلى الأكثر؛ لأن رأيهم إلى الصواب أقرب، قاله السيد السند) وإن تساووا فكونوا في الحزب الذي فيه عبد الرحمن بن عوف. على أن المولى سعد الدين في «شرح العقائد» لم يمنع المشاركة في تصرفات الإمامة، وقصر منع التعدد على منشأ الفساد، حيث قال في أثناء مبحث الإمامة: «غير الجائز هو نصب إمامين مستقلين تجب طاعة كل منهما على الانفراد؛ لما يلزم عليه من امتثال أحكام متضادة، وأما في الشورى فالكل بمنزلة إمام واحد.» انتهى. أي لأن تعدد الأشخاص لا ينافي وحدة الإمامة التي مدارها على وحدة الأمر والنهي، وقد سلم كلام السعد محشوه كالفاضلين؛ عصام الدين وعبد الحكيم، وقرره الخيالي بقوله: وقد يجاب أيضا، وبالجملة فكلهم معترف بصحة كلام السعد في نفسه، وظاهر حينئذ أحروية جواز الشورى في كليات السياسة بالمعنى الذي أشرنا إليه؛ إذ هي دون الشورى في سائر التصرفات، ثم إن الشورى على الوجه المذكور ليس فيها تضييق لدائرة خطة الإمامة وعموم تصرفها، باعتبار أن نظر أهل الحل والعقد بمنزلة نظر الإمام ومراعاة كونه مظهرا له لاستبداده بتمشيته وإدارته، مع ما يستبد به من التصرفات التي لا تقتضي المشاركة كإجراء الخلطة السياسية والمتجرية مع الأجانب، ونصب أرباب الخطط وتأخيرهم، وتنفيذ سائر الأحكام ونحو ذلك من التصرفات التي هي محمل وحدة الآمر، وهاك شاهدا آخر من كلام الإمام ابن العربي فإنه قال في المغارم التي تؤخذ من الناس عند فراغ بيت المال: «إنها تؤخذ جهرا لا سرا وتنفق بالعدل لا بالاستيثار وبرأي الجماعة لا بالاستبداد.» انتهى. ولزيادة البيان نستوضح ذلك بمثال، وهو أن مالك البستان الكبير مثلا لا يستغني في إقامته وتدبير شجره عن الاستعانة بأعوان يكون لهم مزيد معرفة بأحوال الشجر وما يصلحه أو يفسده، فإذا اتفق أن رب البستان أراد قطع شيء من فروع شجره لما رأى في ذلك من تقوية الأصول وتنمية ثمارها فلم يوافقه أعوانه على ذلك، علما منهم بمقتضى قواعد الفلاحة أن القطع في ذلك الوقت مما ينشأ عنه موت الشجرة من أصلها، فتعطيل إرادة المالك في ذلك لا يعد تضييقا لسعة نظره وعموم تصرفه في بستانه، وقد يكون مستند الأعوان في تعطيل إرادته أمرا شرعيا، كما إذا أراد بيع الثمرة قبل بدو صلاحها مثلا فأشاروا عليه بأن ذلك لا يرضاه خالق الشجر، الذي هو المالك الحقيقي، فيلزمه الرجوع لرأيهم في المثالين وإلا توجه اللوم إليه واستحق أن يحجر عليه. وهل يقال حينئذ أن ذلك تضييق على رب البستان؟! بل إن التوسعة عليه مضادة للحكمة الإلهية في إيجاد العالم واستعمار أرضه ببني آدم، هذا مع أن منفعة البستان مختصة بربه، أما إذا كانت له ولغيره أو منزلته فيها كما قال عمر رضي الله عنه: كمنزلة والي اليتيم؛ فأحرى أن لا يتوهم أن ذلك تضييق عليه.
ومعلوم أن تصرف الإمام في أحوال الرعية لا يخرج عن دائر المصلحة، وأن القيام بمصالح الأمة وتدبير سياستها مما لا يتيسر لكل أحد، فتعطيل الإرادة حينئذ إنما يقع في شيء خارج عن دائرة التصرف المسوغ له، فتحرر بما شرحناه اندفاع ذلك القيل، وأنه لا مانع من التشريك على الوجه المذكور. ومن لاحظ جانب المقتضى كما لاحظه الشيخ ابن العربي فيما قدمناه عنه، وهو ملحظنا في جميع ما أسلفناه، لم يتوقف في الجزم بتعينه، لا سيما في هذا الزمان الذي قل فيه العرفان وكثر الطغيان.
अज्ञात पृष्ठ