وتحرك نحو باب الحجرة، ولكنه لم يكد يخطو بقدمه حتى ارتفع صوت مصطفى - كان وحده الذي ظل جالسا على مكتبه: هون على نفسك يا سيد، إن المصلحة لم تخطئ في توقيع العقوبة.
وقال سيد مدهوشا: لم تخطئ؟ لقد جوزي منصور على خطأ وقع مني!
وأجاب مصطفى دون أن يتخلى عن هدوئه: فعلا، أنت الذي أخطأت، لكن منصور هو الذي أراد أن لا تعاقب عندما استدعاه الرئيس، وطلب منه أن يسألنا أينا المخطئ، قال إنه هو نفسه، واعتذر من عدم وضوح إمضائه، وأمضى فوق إمضائك المختصر باسمه كاملا واضحا.
وقال سيد والألفاظ تتعثر على شفتيه: لكن كيف ذلك؟ لماذا فعل ذلك؟
وأخرج مصطفى من أحد أدراج مكتبه خطابا فض ظرفه، ودفع به إلي.
إنه بخط منصور، الرسالة التي أحتفظ بها إلى اليوم، ولو أنها لم تكتب لي، إنها صورة الأستاذ منصور، المخلوق الخرافي النبيل في عصر الواقع الملوث!
وأخذت أقرأ السطور الأولى، إنها تحيات لمصطفى ولأسرته، ووصف لحياة منصور الجميلة في صيف أسوان، ثم أخيرا هذه السطور:
ولا تنس يا مصطفى واحدا دون أن تبلغ تحياتي الصادقة وأشواقي على الخصوص إلى ولدنا سيد ... أستحلفه بالله أنه إذا عرف ما حدث أن يفهم الموقف على حقيقته، صحيح أنه أخطأ خطأ جسيما، ولكن هل كانت الحكومة ستعرف عندما تفكر في عقابه أنه شاب في مقتبل الحياة، ويوشك أن يؤسس بيت الزوجية؟ لقد كان خطؤه كفيلا - في نظرها - بالقضاء على مستقبله، وهو موظف تحت الاختبار ... أي كارثة كانت ستحدث، وفي انتظاره عروس تبني عليه ويبني عليها الآمال؟ أما أنا، حصان الميري العجوز، فما يعدو الأمر بالنسبة لي أن يكون نقطة سوداء في مجلد حافل بالبياض، يعز على الحكومة أن تمزقه كله ... إن أسوان جميلة في عيني القانعة، وفي عيني زوجتي التي طوفت معي ثلاثين عاما؛ فهي لا تزيد على رحلة خلوية، كعشرات الرحلات التي قمنا بها في شتى بلاد القطر، إن أقل اعتراض أو إنكار من سيد سيضيف إلى عقوبتي عقوبة جديدة، عقوبة التزوير في أوراق رسمية، ودعه يقارن بين السجن وأسوان؛ أسوان الرخيصة الجميلة الهادئة، إنه أحسن مكان يستجم فيه أمثالي بعد طول التطواف!
ومضيت أقرأ دون أن أعي شيئا، ولكنني حين طويت الرسالة، كان سيد قد جلس متخاذلا على كتبه، وقد أغمض عينيه.
لعله كان مثلي، لقد كنت في تلك اللحظة أحاول أن أستعيد في خيالي صورة منصور بقسماته المعتدلة، وصوته الهادئ، واسمه المألوف ... ذلك الإنسان الزاهد في عالم التكالب والافتراس، وكأنه هارب من التاريخ المجيد!
अज्ञात पृष्ठ