अनवार अल-रबियाक फी अनवा अल-बदी
أنوار الربيع في أنواع البديع
ثم قدمنا المدينة، فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني من ذلك شيء، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله ﵌ وإلى أبوي، لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا. إلا أنني قد أنكرت من رسول الله ﵌ بعض لطفه بي، فكنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي، فلم يفعل بي ذلك في شكواي، فأنكرت ذلك منه. وكان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني قال: كيف تيكم؟ ولا يزيد على ذلك، حتى وجدت في نفسي حين رأيت ما رأيت من جفائه، فقلت: يا رسول الله لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني؟ قال: لا عليك، فانتقلت إلى أمي، ولا أعلم بشيء مما كان، حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة. وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها إنما كنا نذهب في فيح المدينة. وإنما كان النساء يخرجن في كل ليلة في حوائجهن، فخرجت ليلة في بعض حاجتي، ومعي أم مسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف إذ عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت: بئس ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا، قالت: أو ما بلغت الخبر يا بنت أبي بكر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك، قلت: أو قد كان هذا؟ قالت: نعم والله لقد كان.
قالت: فو الله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت. فو الله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع في كبدي، وقلت لأمي: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا؟ قالت: أي بنية خفضي عليك الشأن، فو الله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها، لها ضرائر، إلا كثرن وكثر الناس عليها.
قالت: وقد قام رسول الله ﵌ في الناس وخطبهم - ولا أعلم بذلك - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيرا ويقولون ذاك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، وما يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي.
قالت: وكان قد كثر ذلك عند عبد الله بن أبي، في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش، ولم يكن من نسائه امرأة تناصيني في المنزلة غيرها. فأما زينب فعصمها الله بدينها، فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت، تضار بي لأختها فشقيت بذلك. فلما قال رسول الله ﵌ تلك المقامة قام أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله أن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وأن يكونوا من أخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك، فو الله أنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فقام سعد ابن عبادة فقال: كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم، أم والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذه المقالة، فقال أسيد: كذبت لعمر الله ولكنك منافق تجادل عن المنافقين. قالت: وتساور الناس حتى كاد يكون بين هذيين الحيين من الأوس والخزرج شر. ونزل رسول الله ﵌ فدعا علي بن أبي طالب ﵇ وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا ثم قال: يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل. وأما علي فإنه قال: يا رسول الله أن النساء لكثير، وإنك لمقتدر أن تستخلف، وسل الجارية فإنها ستصدقك. فدعا رسول الله ﵌ بريرة ليسألها فقام لها علي وهو يقول: أصدقي رسول الله ﵌ فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا وما كنت أعيب على عائشة شيئا، إلا إني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام فتأتي الشاة فتأكله.
قلت وورد عن علي ﵇ أنه قال: طلقها يا رسول الله. قال الشيخ محمد القابلي: وما أراد بذلك تنقيص قدرها، وإنما تعارض في حقه أمران مشكلان: إضرار عائشة بالطلاق، وإضرار النبي ﵌ بما نزل به من الأمر العظيم في شأن الإفك، والقاعدة فيما إذا تعارض إضراران، أن يرتكب أخفهما، ولاشك أن إضرار عائشة هو الأخف، فأراد راحته ﵌ مما حصل عنده، وعلم أنه ولابد أن ينزل عليه ﵌ في ذلك شيء، لأنه يعتقد نزاهتها وعظيم قدرها، وإن له ﵌ سبيلا إلى مراجعتها.
1 / 344