Annotations on the Introduction to Tafsir by Ibn Qasim
حاشية مقدمة التفسير لابن قاسم
प्रकाशक
بدون ناشر
संस्करण संख्या
الثانية
प्रकाशन वर्ष
١٤١٠ هـ - ١٩٩٠ م
शैलियों
بقلم
الفقير إلى الله تعالى
عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
الحنبلي النجدي
رحمه الله تعالى
(١٣١٢-١٣٩٢ هـ)
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسبحان الله رب العرش عما يصفون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق المأمون، صَلَّى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلِهِ وأَصحابِهِ والتَّابعينَ الذين هم بهديه متمسكون وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فحيث إن كتاب الله وبيانه أهم ما يهتم به، فهذه حاشية على المقدمة في تفسيره، توضح المقاصد، وتعين مريد معرفة معانيه، كأصل يتوصل بها إلى المراد منه، على ما كان عليه السلف الصالح، الله ولي التوفيق.
1 / 5
بسم الله الرحمن الرحيم (١)
الحمدُ للهِ الذي أنزَلَ الكتابَ تِبيانًا لِكُلِّ شيء وهدى للمتقين (٢) .
_________
(١) ابتدأ بالبسملة: اقتداء بالكتاب العزيز، وتأسيا بالنبي ﷺ في مكاتباته، وعملا بحديث: «كل أمر ذي بال، لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أقطع»، أي ناقص البركة والاسم مشتق من السمو، والله أعرف المعارف الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العليا، وهو مشتق أي: دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية ومعناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، والرحمن: رحمة عامة لجميع المخلوقات والرحيم: رحمة خاصة بالمؤمنين، اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة.
(٢) الحمد ثناء، والألف واللام لاستغراق جميع المحامد؛ وقال الشيخ: الحمد، ذكر محاسن المحمود، مع حبه وإجلاله وتعظيمه وثنى بالحمد له بعد البسملة اقتداء بالقرآن العظيم وبالنبي الكريم، وعملا بحديث: «كل أمر ذي بال، لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» .
وإنزال القرآن على محمد ﷺ لا يمتري فيه مسلم قال تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾ إلى غير ذلك من الآيات، وتواترت به السنة وأجمع عليه المسلمون، وسماه تعالى كتابا: لجمعه العلوم، والقصص، والأخبار على أبلغ وجه.
... وجعله تبيانا لكل شيء، بين فيه علم كل شيء، من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دينهم ودنياهم، ومعاشهم ومعادهم؛ قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ فقد اشتمل على ما يجري في العالم، وقال ﷺ: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم»، وقد أفرد الناس كتبا فيما تضمنه، من جميع فنون العلوم؛ فلا إله إلا الله، ماذا حرمه المعرضون عنه من العلم والهدى؟!
... وجعله تعالى هدى للمتقين قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ ويطلق الهدى، ويراد به: ما يقر في القلوب من الإيمان، ويراد به بيان الحق، وتوضيحه، والدلالة عليه والإرشاد إليه.
1 / 7
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين (١) .
_________
(١) أشهد، أي: أقطع وأجزم أن لا معبود حق، إلا الله وحده لا شريك له، ووحده: حال من الاسم الشريف تأكيد للإثبات ولا شريك له: تأكيد للنفي، تأكيد بعد تأكيد اهتماما بمقام التوحيد.
الملك: حقيقة، كما قال تعالى: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾، وقال ﷺ: «لا مالك إلا الله» الحق، قال تعالى: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾ فهو سبحانه الحق المبين، وقوله الحق وكتابه الحق، له الملك لا إله إلا هو، العزيز الحكيم.
1 / 8
وأَشهدُ أنَّ محمدًا عَبدُهُ ورَسولُهُ الصَّادقُ الأَمينُ (١) صَلَّى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلِهِ وأَصحابِهِ والتَّابعينَ (٢) وسلم تسليمًا كثيرًا (٣) .
_________
(١) أي: وأجزم أن محمدا، وهو أشرف أسمائه ﷺ اسم مفعول من حمد فهو محمد إذ كان كثير الخصال التي يحمد عليها فهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره من البشر؛ عبده: أشرف اسم له أيضا فإنه لا أشرف ولا أتم للمؤمن، من وصفه بالعبودية لله تعالى ورسوله، أي: مرسله وسفيره بأداء شريعته الصادق فيما يبلغه عن الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ﴾ الأمين، وعلى وحيه، وكان ﷺ يسمى الأمين قبل بعثته، وأيده الله بالآيات، والدلالات الواضحات القاطعات بصدقه.
(٢) الصلاة من الله عليه ﷺ هو الثناء والعناية به، وإظهار شرفه وفضله وعلى آله أهل بيته، وقيل أتباعه، وأصحابه: جمع صاحب، وهم: من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنا ومات على ذلك والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(٣) سلم: من السلامة بمعنى التحية، أو الأمان أو السلامة من النقائص، طلب السلامة له من الله، أو اسم الله عليه، إذ كان اسم الله يذكر على الأعمال، توقعا لاجتماع معاني الخيرات فيه، وتسليما مصدر مؤكد، كثيرا: دائما أبدا، والصلاة والسلام عليه ﷺ مستحبة كل وقت، وتتأكد عند ذكر اسمه ﷺ وآله وأصحابه والتابعون لهم، تبع في ذلك.
1 / 9
أَمَّا بَعدُ: فَهذهِ مُقدِّمَةٌ في التَّفسيرِ (١) تُعينُ على فهم القرآن العظيم (٢)
_________
(١) أما بعد: كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى غيره، ويستحب الإتيان بها في الخطب، والمكاتبات، اقتداء به ﷺ وهي مبنية على الضم، لقطعها عن الإضافة مع نية المضاف إليه، أي: بعد ذكر الله والثناء عليه، والشهادتين، والصلاة على رسول الله ﷺ وآله وأصحابه وأتباعه، فهذه إشارة إلى ما تصور في الذهن، وأقيم مقام المكتوب الموجود مقدمة: وهي من الكتاب فصل، يعقد في أوله، ومن كل شيء أوله، أو ما يتوقف عليه الشيء توقفا عقليا، أو عاديا أو جعليا وهذه نبذة مختصرة في أول التفسير الذي هو الكشف والإيضاح والتبيين والتأويل للقرآن العظيم.
(٢) تعين: أي تساعد على فهم، أي تصور وإدراك معاني القرآن: اسم علم لكتاب الله، قيل سمي به الكتاب المقروء، وقيل لجمعه ثمرات الكتب السابقة، أو لجمعه أنواع العلوم، أو السور ووصف بالعظيم، والذكر الحكيم والصراط المستقيم وغير ذلك مما يدل على شرفه، ولا ريب: أن كل كلام، المقصود
منه فهم معانيه، لا مجرد ألفاظه، والقرآن أولى بذلك، وقد ندب تعالى إلى ذلك فقال: ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ وتدبره بدون فهم معانيه محال، والعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم ولا يستشرحونه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟
1 / 10
الجديرِ بأنْ تُصرَفَ لَهُ الهِمَمَ ففيهِ الهُدى والنُّورُ (١) ومَن أَخَذَ بِهِ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مستقيم (٢) .
_________
(١) أي: فالقرآن العظيم، هو الجدير أي: الخليق بأن تصرف له الهمم جمع همة، يقال: هممت بالشيء إذا أردته بل وتثنى عليه الخناصر، ويستمسك به ويعتصم به ففيه الهدى والنور والشفاء لما في الصدور، قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وقال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ .
﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ ﴿نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ وتكفل الله لمن اتبعه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
(٢) أي: ومن أخذ بكتاب الله، واعتصم به ودعا إليه، هدي إلى صراط مستقيم قال تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ وفي صحيح مسلم: «إني تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، من استمسك به، وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضل، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به» .
... وللترمذي وغيره: «ستكون فتن»، قيل: فما المخرج منها؟ قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» .
1 / 11
تنزيل القرآن (١)
أَجمَعوا: على أنَّ القُرآنَ كلامُ اللهِ حَقيقَةً منزل غير مخلوق (٢) .
_________
(١) أي بيان أن القرآن كلام الله، نزل من الله سمعه منه جبريل وسمعه محمد من جبريل عليهما الصلاة والسلام.
(٢) أي: أجمع أهل العلم من الصحابة والتابعين، وتابعيهم على أن القرآن كلام الله حقيقة قال تعالى: ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ﴾ وغير ذلك وقال شيخ الإسلام وغيره: أجمعوا على أن القرآن كلام الله منزل من الله، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ فأخبر أنهم يعلمون ذلك، والعلم لا يكون إلا حقا، فمن لم يقر بذلك من هذه الأمة، كان أهل الكتاب المقرون بذلك خيرا منه من هذا الوجه.
... وقال تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ولم يخبر عن شيء، أنه منزل من الله، إلا كلامه جل وعلا، وهو غير مخلوق بإجماع المسلمين ومن قال كلام الله مخلوق، فهو ⦗١٤⦘ كافر، قال: واشتهر عن السلف تكفير من قال القرآن مخلوق، وأنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
1 / 13
سَمِعَهُ جِبريلٌ مِن اللهِ (١) وَسَمِعَهُ مُحمَّدٌ مِن جبريل (٢) .
_________
(١) جل وعلا، قال شيخ الإسلام: كما نص على ذلك أحمد، وغيره من الأئمة قال تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ فأخبر سبحانه أنه نزله روح القدس، وهو الروح الأمين كما قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾ وقوله الأمين: دليل على أنه مؤتمن على ما أرسل به، لا يزيد فيه ولا ينقص.
... وهذا بيان لنزول جبريل به من الله، فإنه إذا كان روح القدس نزل بالقرآن العربي، لزم أن يكون نزله من الله، فلا يكون شيء منه، نزل من عين من الأعيان المخلوقة، ولا نزل من نفسه، وإذا كان روح القدس نزل به من الله، علم أنه سمعه من الله ولم يؤلفه هو، وهذا بيان من الله: أن القرآن الذي هو اللسان العربي المبين، سمعه روح القدس من الله؛ ولم يقل أحد من السلف أنه سمعه محمد من الله.
... ولو كان جبريل لم يسمعه من الله، وإنما وجده مكتوبا كانت العبارة عبارة جبريل وكان القرآن كلام جبريل، ترجم به عن الله، كما يترجم عن الأخرس الذي أكتب كلاما، ولم يقدر أن يتكلم به، وهذا خلاف دين المسلمين.
(٢) ﵉ قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ وقال: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾
أي: قرأه رسولنا ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ فاستمع له وأنصت ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ أن نبينه بلسانك، وكان رسول الله ﷺ بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل، قرأه كما قرأه جبريل وهو كقوله: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ﴾ وقوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ ونحو ذلك.
... فإنه تعالى أضافه تارة إلى رسول من البشر، وتارة إلى رسول من الملائكة فقال: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ إلى قوله: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ والرسول هنا: محمد ﷺ وقال: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ إلى قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ فالرسول هنا جبريل، وأضافه سبحانه إلى كل منهما باسم رسوله لأن ذلك يدل على أنه مبلغ له عن غيره، وأنه رسول فيه لم يحدث هو شيئا منه.
... قال الشيخ: ولم يقل أحد من السلف، إن جبريل أحدث ألفاظه ولا محمدا ﷺ ولا إن الله تعالى خلقه في الهوى أو غيره من المخلوقات، ولا إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، بل هذه الأقوال، هي: من أقوال بعض الملحدين من الفلاسفة وغيرهم.
1 / 14
وسَمِعَهُ الصَّحابَةُ مِن مُحمَّدٍ ﷺ (١) .
_________
(١) ولا نزاع في ذلك، وقال الشيخ: هذا مذهب سلف الأمة وأئمتها، والدلائل على ذلك كثيرة، من الكتاب والسنة والإجماع؛ وكانوا يقولون: هذا عهده إلينا ونحن عهدناه إليكم وفي السنن أنه ﷺ كان يعرض نفسه على الناس بالمواسم، فيقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي»، وفي الصحيح: «بلغوا عني ولو آية»، وقال: «ليبلغ الشاهد الغائب» .
1 / 15
وَهُوَ الذي نَتلُوهُ بِأَلسِنَتِنا (١) وفِيما بَينَ الدَّفتَينِ (٢) وما في صدورنا (٣) مسموعا ومكتوبا ومحفوظا (٤) وكل حرف منه،
_________
(١) أي: والقرآن العزيز هو الذي نتلوه بألسنتنا ولا يخرج بذلك عن كونه كلام الله حقيقة؛ فإنه إذا أريد بالتلاوة الكلام نفسه، الذي يتلى فالتلاوة هي المتلو.
(٢) أي: القرآن الكريم، هو ما بين ضمامتي المصحف، ولا يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله حقيقة، قال الشيخ: ما يكتب في المصاحف من كلامه فهو كلامه مكتوبا في المصاحف، وكلامه غير مخلوق، والمداد الذي يكتب به كلامه، وغير كلامه مخلوق، وقد فرق تعالى بين كلامه وبين مداد كلماته فقال: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي﴾ .
(٣) أي: والقرآن العظيم، هو ما في صدورنا حفظناه عن ظهر قلب، ولا يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله حقيقة.
(٤) أي: والقرآن الكريم، كلام الله حقيقة، مسموعا حال تلاوتنا له، ومكتوبا فيما بين الدفتين، قال الشيخ: وإذا كتب في المصاحف، كان ما كتب من كلام رب العالمين غير مخلوق، وإن كان المداد وشكله مخلوقا، وأيضا فإذا قرأ الناس كلام الله ⦗١٧⦘ فالكلام في نفسه غير مخلوق، إذا كان الله تكلم به، فإن الكلام كلام من قاله مبتدئا أمرا يأمر به، أو خبرا يخبره، ليس هو كلام المبلغ له عن غيره، وإذا قرأه المبلغ يقال: هذا كلام الله؛ فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا.
... والقرآن كلام الله محفوظا في صدورنا، قال أحمد: القرآن كلام الله غير مخلوق، حيث تصرف.
قال الشيخ: أي: حيث كتب وقرئ، مما هو في نفس الأمر كلام الله فهو كلامه، وكلام غير مخلوق، وما كان من صفات العباد وأفعالهم التي يقرءون ويكتبون بها كلامه، كأصواتهم ومدادهم فهو مخلوق ولهذا من لم يهتد إلى هذا الفرق يحار فإنه معلوم أن القرآن واحد، ويقرؤه خلق كثير، والقرآن لا يكثر في نفسه بكثرة قراءة القراء، وإنما يكثر ما يقرءون به القرآن، فما يكثر ويحدث في العباد فهو مخلوق، والقرآن نفسه، لفظه ومعناه، الذي تكلم الله به، وسمعه جبريل من الله، وسمعه محمد من جبريل، وبلغه محمد ﷺ إلى الناس، وأنذر به الأمم قرآن واحد، وهو كلام الله ليس بمخلوق.
... قال أبو حامد الإسفراييني: مذهبي ومذهب الشافعي، وفقهاء الأمصار، أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعا من الله والنبي ﷺ سمعه
من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله ﷺ وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا ومحفوظا وكل حرف منه كالباء والتاء، كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق: فهو كافر، وعليه لعائن الله والناس أجمعين.
1 / 16
كالباءِ والتَّاءِ، كلامُ اللهِ غيرُ مَخلوقٍ (١) مِنهُ بدأ وإليه يعود (٢) .
_________
(١) أي: وكل حرف من القرآن، الذي هو لفظه، قبل أن ينزل به جبريل، وبعدما نزل به، كالباء والتاء، إلى آخر حروف الهجاء الثمانية والعشرين، كلام الله، غير مخلوق، ولم يقل أحد من السلف إنه مخلوق، وإنما قاله الجعد بن درهم، ورد السلف هذا القول، قال الشيخ: كما تواترت الآثار عنهم بذلك وصنف في ذلك مصنفات متعددة، قال: ومن قال إنه مخلوق، فقد خالف إجماع السلف، ومن قال إنه مخلوق، يقول: إنه خلق في بعض المخلوقات القائمة بنفسها، فمن ذلك المخلوق، نزل وبدأ لا من الله وإخباره تعالى إنه نزل من الله، يناقض أن يكون قد نزل من غير الله.
(٢) أي: هو تعالى الذي تكلم به، لم يبتدأ من غيره، ومنه نزل كما قال تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ﴾ وقال بعضهم: منه خرج قال الشيخ: وليس مقصود السلف، أنه منه خرج، ومنه بدأ أنه فارق ذاته، وحل في غيره، فإن الصفة لا تفارق الموصوف وتحل بغيره، وإنما قالوا ذلك: ردًا على المعتزلة والجهمية
الذين يقولون: بدأ من المخلوق الذي خلق فيه، وكيف يجوز أن يفارق ذات الله كلامه، أو غيره من صفاته، وإليه يعود، أي علمه فلا يبقى في المصاحف منه حرف، ولا في الصدور منه آية.
... قال عمرو بن دينار: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة، وقال مرة: أدركت أصحاب النبي ﷺ فمن دونهم يقولون: القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، وفي الأثر: «إن القرآن يسرى به، حتى لا يبقى في المصاحف منه حرف ولا في القلوب منه آية» .
1 / 18
وهُو كلامُ اللهِ حُروفُهُ ومَعانيهِ ليسَ الحروفُ دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف (١) .
_________
(١) ذكره الشيخ وغيره في عقائد السلف، وقال: الذي عليه السلف، أن القرآن كلام الله، تكلم الله بحروفه ومعانيه، ليس شيئا منه كلاما لغيره، لا لجبريل ولا لمحمد، ولا لغيرهما بل كفر الله من جعله قول البشر، فالقرآن كلام الله حروفه ومعانيه والنبي ﷺ إذا تكلم بكلامه تكلم بحروفه ومعانيه بصوته، ثم المبلغ عنه يبلغ كلامه بحركاته وصوته، والمبلغ عنه مبلغ حديثه كما سمعه، لكن بصوت نفسه، لا بصوت الرسول فالقرآن هو كلام الله، تكلم الله به بصوته، والمبلغ عن الله مبلغ كلام الله بصوت نفسه كما أن كلام الرسول تكلم به بصوته والمبلغ عنه بلغ بصوت نفسه.
... وقال ﷺ: «زينوا القرآن بأصواتكم» فجعل الكلام كلام الباري، وجعل الصوت الذي يقرؤه العبد، صوت القارئ، وأصوات العباد ليست هي الصوت الذي يتكلم الله به، ولا مثله، فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فليس كلامه مثل كلامهم، ولا أصواته مثل أصواتهم ولا يلزم إذا كان صوت المبلغ مخلوقا، أن يكون كلام الله مخلوقا.
1 / 19
وبدعوا من قال: إنه فاض على نفس النبي، مِنَ العَقلِ الفَعَّالِ، أو غَيرِهِ كالفَلاسِفَةِ والصَّابِئِيَّةِ (١) .
_________
(١) أي: وبدع السلف من الصحابة والتابعين، مَن قالَ: إنَّ القُرآنَ فاضَ على نَفسِ النبي محمد ﷺ من العقل والفعال، أو غير العقل الفعال، فإن المتفلسفة كابن سينا وأضرابه، والصابئة وهم قوم: يشبه دينهم دين النصارى، زعموا أن كلام الله ليس له وجود، إلا في نفوس الأنبياء، تفاض عليهم المعان، من الروح، الذي هو العقل الفعال أو غير ذلك.
... قال الشيخ: وهذا القول أعظم كفرا وضلالا، من قول الجهمية وغيرهم، وقال: تنازع الناس في كلام الله نزاعا كثيرا، والطوائف الكبار نحو ست فرق، فأبعدها عن الإسلام قول من يقول، من المتفلسفة والصابئة، إن كلام الله إنما يفيض على النفوس، إما من العقل الفعال، وإما من غيره وليس
بكلام الله في الحقيقة، وإنما هذا في الحقيقة كلام النبي، وإنما سمي كلام الله مجازا.
... قال: ورأوا أن الرسول سمى القرآن كلام الله، فقالوا: هذا القرآن كلام الله، ولكن المعنى أنه فاض على نفس النبي من العقل الفعال، وربما قالوا: إن العقل هو جبريل، قال: وقد ضل بكلام ابن سينا وأضرابه، كثير من المشهورين، مثل أبي حامد، ذكر هذا المعنى في بعض كتبه.
... وصنفوا رسائل إخوان الصفا وغيرها، وجمعوا فيها على زعمهم، بين مقالات الصابئة المتأخرين، التي هي الفلسفة المبتدعة، وبين ماجاء به الرسول ﷺ عن الله، فأتوا بما زعموا أنه معقول، ولا دليل على كثير منه، وبما ذكروا أنه منقول، وفيه من الكذب والتحريف، أمر عظيم وإنما يضلون به كثيرا، بما فيه من الأمور الطبيعية والرياضية التي لا تعلق لها بأمر النبوات والرسالات، لا بنفي ولا بإثبات ولكن ينتفع بها في مصالح الدنيا، كالصناعة والحياكة والبناية، والخياطة، ونحو ذلك.
1 / 20
أَوْ أنَّهُ مَخلوقٌ في جِسمٍ مِنَ الأَجسامِ كالمعتزلة والجهمية (١) .
_________
(١) أي: وبدع السلف من قال، إن كلام الله مخلوق، خلقه الله في جسم من الأجسام المخلوقة، فمن ذلك الجسم ابتدأ لا من الله، قال الشيخ: كما هو قول الجهمية، الذين قالوا بخلق
القرآن، من المعتزلة والنجارية والضرارية وغيرهم، والسلف: يسمون كل من نفى الصفات، وقال: إن القرآن مخلوق
وإن الله لا يرى في الآخرة جهميا فإن جهما أول من ظهرت عنه تلك البدعة، وانتشرت في خلافة هشام بن عبد الملك، وإن كان جعد سبقه إلى بعض ذلك، في أوائل المائة الثانية، وهؤلاء هم الذين دعوا من دعوه من الخلفاء إلى مقالتهم حتى امتحن الناس في القرآن بالمحنة المشهورة في إمارة المأمون ورفع الله شأن من ثبت فيها من أئمة السنة كالإمام أحمد بن حنبل وموافقيه وكشفها الله عن الناس في إمارة المتوكل.
... وقال أول من أظهر إنكار التكليم الجعد، وأمر علماء الإسلام كالحسن البصري وغيره، بقتله، وأخذ عنه الجهم بن صفوان فأنكر أن يكون الله يتكلم، ثم نافق المسلمين، فأقر بلفظ الكلام، وقال: كلامه يخلق في محل، كالهواء وورق الشجر.
... وقال: الجهمية والمعتزلة هم الذين يقولون كلام الله مخلوق، يخلقه في بعض الأجسام، فمن ذلك الجسم ابتدأ لا من الله ولا يقوم عندهم بالله كلام ولا إرادة، وبالجملة: فقد اتفق سلف الأمة، وأئمتها: على أن الجهمية من أشر طوائف أهل البدع، حتى أخرجهم كثير من السلف، من الثنتين والسبعين فرقة، قال: وهم أول من عارض الوحي بالرأي.
1 / 21
أو في جِبريلَ، أو مُحمّدٍ، أو جِسمٍ آخرَ غيرهما، كالكلابية والأشعرية (١) .
_________
(١) فإنهم يقولون: إن القرآن العربي ليس هو كلام الله، وإنماكلامه المعنى القائم بذاته والقرآن العربي خلق ليدل على ذلك المعنى كما نقله الشيخ وغيره، وقال عنهم: إما أن يكون خلق في بعض الأجسام الهوائية، أو غيره، أو ألهمه جبريل فعبر عنه بالقرآن العربي، وألهمه محمد ﷺ فعبر عنه بالقرآن العربي، أو يكون أخذه جبريل من اللوح المحفوظ أو غيره فهذه الأقوال التي تقال تفريع على هذا القول، يعني بخلق القرآن.
... وقوله: ﴿مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ وأمثاله يعلم منه أن القرآن العربي نزل من الله، لا من الهواء، ولا من اللوح المحفوظ، ولا من جسم آخر، ولا من جبريل، ولا محمد، ولا غيرهما، قال: وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس، وغيره من السلف، في تفسير قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ أنه أنزل إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم أنزل بعد ذلك منجما مفرقا، بحسب الحوادث، ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ، قبل نزوله كما قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ وقوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ وقوله: ﴿كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾ وقال: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ﴾ وكونه مكتوبا في اللوح المحفوظ، وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة، لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله، سواء كتبه قبل أن يرسل به جبريل أو غير ذلك.
... وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة، جملة واحدة في ليلة القدر، فقد كتبه كله قبل أن ينزله، والله تعالى يعلم ما كان وما يكون، أن لو كان كيف كان يكون، ثم ذكر مقادير
الخلائق وكتب أعمالهم قبل أن يعلموها ثم قال: ومن قال إن جبريل أخذ القرآن عن الكتاب، لم يسمعه من الله، كان هذا باطلا من وجوه، وذكر الآيات الدالة على أنه منزل من الله لا من غيره، وأن الرسول مأمور بتبليغ ما أنزل إليه من ربه، وذكر أن ابن كلاب وموافقيه، وصفوا الله بالكلام في الأزل، لكن لم يجعلوه قادرا على الكلام، ولا متكلما بمشيئته وأن الحقائق المتنوعة شيء واحد، وذلك معلوم الفساد بالضرورة.
... وذكر هو وابن القيم عن الكلابية، ومن اتبعهم كالقلانسي والأشعري، أن كلام الله معنى قائم بذات الله، هو الأمر بكل مأمور، أمر الله به، والخبر عن كل مخبر، أخبر الله عنه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، أو بالعبرية كان توراة، أو بالسريانية كان إنجيلا، والأمر والنهي والخبر، ليست أنواعا له، وإنما كلها صفات له إضافية.
1 / 22
أَو أنَّهُ حُروفٌ وأَصواتٌ، قَديمةٌ أَزَلِيَّةٌ كَالكَلاميَّةِ (١)
_________
(١) من السالمية وغيرهم من أتباع الأئمة الأربعة، وغيرهم قال الشيخ، يقولون: إن كلام الله حروف وأصوات قديمة أزلية وإنها مع ذلك معان تقوم بذلك المتكلم وهم يوافقون الأشعرية والكلابية، في أن تكليم الله، ليس إلا مجرد إدراك للمتكلم ليس هو أمرا منفصلا عن المستمع، وأيضا: قد وافقت ابن كلاب، أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته وقالت: بل الكلام القديم هو حروف، أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب، أزلا وأبدا، لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بها شيئا بعد
شيء، وهذا أيضا معلوم الفساد بالضرورة، ومنهم من يزعم، أن ذلك القديم هو ما يسمع من العباد من الأصوات بالقرآن وهو أظهر فسادا مما قبله.
1 / 24
أَو أنَّهُ حادِثٌ قائِمٌ بِذاتِ اللهِ، مُمتَنِعٌ في الأزل، كالهاشمية والكرامية (١) .
_________
(١) أي: وبدع السلف، قول من قال: إن القرآن حادث، قائم بذات الله، بعد أن لم يكن متكلما بكلام، بل ما زال عندهم قادرا على الكلام، وهو عندهم لم يزل متكلما بمعنى أنه قادر على الكلام، وإلا فوجود الكلام عندهم في الأزل ممتنع كوجود الأفعال عندهم وعند من وافقهم، من أهل الكلام، كالمعتزلة وأتباعهم وهم يقولون: إنه حروف وأصوات حادثة بذات الرب، بقدرته ومشيئته ولا يقولون إن الأصوات المسموعة، والمداد الذي في المصحف قديم، بل يقولون: إن ذلك محدث كما قال الشيخ.
... وقال أيضا عنهم: لكنه لم يمكنه أن يتكلم بمشيئته في الأزل لامتناع حوادث لا أول لها وهؤلاء جعلوا الرب في الأزل غير قادر على الكلام بمشيئته ولا على الفعل.
... وذكر ابن القيم: مذهب الاتحادية وأنهم يقولون: كل كلام في الوجود كلام الله، بناء على أصلهم الفاسد: أن الله سبحانه هو عين هذا الوجود، وذكر المذاهب المتقدم ذكرها ثم قال: والبراهين العقلية والأدلة القطعية شاهدة ببطلان هذه المذاهب كلها، وأنها مخالفة لصريح العقل والنقل، والعجب أنها دائرة بين فضلاء العالم لا يكادون يعرفون غيرها.
... قال الشيخ: وكان قد كثر ظهور هؤلاء، في أول المائة الثانية والثالثة في إمارة المأمون بسبب تعريب كتب الروم، المشركين الصابئين الذين كانوا قبل النصارى، ومن أشبههم من فارس والهند، وظهرت هذه المقالة في أهل العلم والكلام، وفي أهل السيف والإمارة وصار في أهلها من الخلفاء والأمراء، والولاة والقضاة والفقهاء، ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الذين اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولم يبدلوا ولم يبتدعوا وذلك لقصور وتفريط من أكثرهم في معرفة حقيقة ما جاء به الرسول ﷺ وأتباعه وإلا فلو كان كثيرا فيهم لم يتمكن أولئك المبتدعة لما يخالف دين الإسلام، من التمكن منهم.
... وقال: ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثير، من أهل الفقه، والحديث والتصوف وذكر ابن القيم أنه لما ابتلي الناس بأهل البدع وقام سوقها أقام الله لدينه شيخ الإسلام، فغزاهم مدة حياته باليد والقلب واللسان، وكشف للناس باطلهم وبين تلبيسهم وتدليسهم، وقابلهم بصريح المعقول وصحيح المنقول، وأشفى واشتفى فجزاه الله أحسن الجزاء.
1 / 25
ومَن قالَ: لَفظِي بِالقُرآنِ مَخلوقٌ فَجَهمِيٌّ، أَو غير مخلوق فمبتدع (١) .
_________
(١) قال الإمام أحمد وغيره: وأن القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله على الحقيقة، وحيث تصرف كلام الله فهو غير مخلوق، وقال الشيخ: أنكر الأئمة قول من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق، وقالوا: من قال مخلوق، فهو جهمي ومن قال غير مخلوق، فهو مبتدع، وكذلك قالوا في التلاوة والقراءة لأن اللفظ والتلاوة والقراءة يراد بها المصدر الذي هو فعل العبد، وأفعال العباد مخلوقة فمن جعل شيئا من أفعالهم وأصواتهم وغير ذلك من صفاتهم غير مخلوق فهو مبتدع، ويراد باللفظ نفس الكلام الملفوظ كما يراد بالتلاوة والقراءة نفس الكلام وهو القرآن نفسه.
... ولا ريب أن من حدث عن النبي ﷺ بحديث إذا سمعوه قالوا: هذا كلام النبي لأنهم قد علموا أنه تكلم بذلك الكلام، لفظه ومعناه وتكلم به بصوته، ثم المبلغ له عنه بلغه بصوت نفسه، فمن قال: إن هذا القرآن العزيز المسموع، ليس هو كلام الله، أو هو كلام القارئين كان فساد قوله معلوما بالضرورة شرعا وعقلا، كما أن من قال هذا الصوت المسموع ليس هو صوت العبد، أو هو صوت الله، كان فساد قوله معلوما بالضرورة شرعا وعقلا، وليس لأحد من الوسائط فيه، إلا التبليغ بأفعاله، لم يحدث أحد منهم شيئا من حروفه ولا نظمه ولا معانيه.
... وذكر ابن القيم: أن المنع من أحمد في النفي والإثبات من كمال علمه باللغة والسنة، وتحقيقه لهذا الباب والذي قصده
أن اللفظ يراد به أمران، أحدهما: الملفوظ نفسه، وهو غير مقدور للعبد، ولا فعل له، والثاني: التلفظ به والأداء له وفعله، فإطلاق الخلق على اللفظ، قد يوهم المعنى الأول، وهو خطأ، وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني، وهو خطأ فمنع الإطلاقين.
... وذكر هو وشيخ الإسلام: اضطراب الناس في كلام الله، ثم قال: وأما التكفير فالصواب أن من اجتهد من أمة محمد ﷺ وقصد الحق فأخطأ لم يكفر، بل يغتفر له خطؤه ومن تبين له ما جاء به الرسول ﷺ فشاق الرسول، من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين، فهو كافر، ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق، وتكلم بلا علم فهو عاص، مذنب ثم قد يكون فاسقا وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته.
... فالتكفير يختلف، بحسب اختلاف حال الشخص فليس كل مخطئ ولا مبتدع، ولا جاهل، ولا ضال، يكون كافرا، بل ولا فاسقا بل ولا عاصيا، لا سيما في مثل مسألة الكلام، قد غلط فيها خلق من أئمة الطوائف المعروفين عند الناس بالعلم والدين، وغالبهم يقصد وجها من الحق، فيتبعه ويعزب عنه وجه آخر، لا يحققه فيبقى عارفا بعض الحق جاهلا بعضه، بل منكرا له، ومن هنا نشأ نزاعهم.
1 / 26
مواضع نزوله (١) .
أجمعوا على أن القرآن مائة وأربع عشرة سورة (٢) .
_________
(١) أي: ذكر مواضع نزول القرآن، من الله ﷿، على محمد ﷺ وأوقاته، ومعرفة علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة وغيرهما: من أشرف علوم القرآن ومن فوائده، العلم بالمتأخر إن كان ناسخا، أو مخصصا أو غير ذلك.
(٢) أي: أجمع أصحاب النبي ﷺ في زمن عثمان، على ترتيب سور القرآن في المصحف مائة وأربع عشرة سورة، وقيل الأنفال وبراءة سورة وشبهة من قال ذلك: أنها لم تكتب بينهما البسملة ويرده تسمية النبي ﷺ لهما، وكان في مصحف ابن مسعود مائة واثنتي عشرة سورة، لأنه لم يكتب المعوذتين وفي مصحف أبي: مائة وست عشرة سورة لأنه كتب في آخره سورتي: اللهم إنا نستعينك، واللهم إياك نعبد واستقر الأمر على مائة وأربع عشر سورة؛ والسورة قيل، من الإبانة، والارتفاع وقيل: لشرفها وارتفاعها، كسور البلد، وقيل: لكونها قطعة من القرآن، وجزاء منه، وقيل: من الجمع والإحاطة لآياتها.
1 / 29