وأعرف أن العادة قوية السلطان على سليقتي وخلقي، ولا تعصمني منها إلا الثورة النفسية، وأشدها ما كان ثورة للكرامة أو الحقيقة كما أومن بها ... فكل بناء تبنيه السعادة ينهار فيما بين ليل ونهار إذا ثارت النفس لحقيقة محجوبة، أو كرامة مغلوبة، وقلما تكون للإرادة يد في الحالتين.
وأعرف أنني أعامل الناس والأشياء كأنهم معان مجردة في الضمير، لا كأنهم شخوص ومحسوسات ... فعشرة ملايين جنيه - مثلا - معناها عندي المتعة أو الترف أو السطوة أو الجاه. وطلبي لها يتوقف على حاجتي إلى تلك المعاني لا على حسابها بلغة الأرقام والمصارف والقصور والضياع ...
وأكره الظلم حين أكره الظالم، والشر حين أكره الشرير، والخبث حين أكره الخبيث ...
ولهذا يفوتني أحيانا أن أفرق بين كراهة المبدأ وصاحب المبدأ، ولا يسيغ طبعي ما يقال عن التفرقة بين العمل وعامله؛ لأن العمل لا يكون خبيثا وعامله من الأطهار!
وعرفت كثيرا من أمثال هذه الحدود، ولكنني لم أعرف كثيرا ولا قليلا مما تحيط به تلك الحدود ... فعرفت أن الفيلسوف سقراط كان يستعير لغة الكهانة حقا حين قال: «اعرف نفسك!»
لأنه كان كمن يطالبنا بمعرفة الغيب أو معرفة المجهول، وكلاهما من صناعة الكهان! (2) عرفت طريقي للنجاح
يعرف المعنيون بطبائع الطيور المهاجرة أنها قد تضل عمدا - أو على غير عمد - عن طريقها، فتضل عنه مرة أو مرتين أو ثلاث مرات على الأكثر، ويبدو عليها في المرة الأولى تردد طويل قبل الاستقامة على نهجها، ثم يقل هذا التردد في المرة الثانية، ثم يزول أو يكاد في المرة الثالثة، ولا يلبث الطير المهاجر أن يتجه إلى وجهته، ويستقيم عليها إلى أقصاها.
يصدق هذا على النفس البشرية، وهي تلتمس طريقها السوي في أوائل حياتها كما يصدق على الطيور المهاجرة، فتضل الطريق مرة أو مرات، ثم لا يلبث أن تعتدل على نهج تتحراه إلى أقصاه.
وهذا الذي حدث لي في أوائل صباي بين المناهج المختلفة التي اعتقدت أنني مهيأ للمسير عليها بالفطرة وهداية الظروف ... •••
خطر لي في مبدأ الأمر أنني مهيأ لحياة الجندية وأنني أبلغ أمنيتي من الحياة إذا بلغت مرتبة القيادة في جيش مصر، وطردت جيش الاحتلال، وبين زملائي في الدراسة من يذكر هذه الأمنية أو هذه الطليعة، ومنهم الأستاذ سيد جودت المهندس الكبير، واللواء محمود عسكر الذي اتجه دوني إلى الحياة العسكرية، وترقى فيها إلى غاية الدرجات التي يرتقي إليها الضابط المصري قبل سن الإحالة إلى المعاش.
अज्ञात पृष्ठ