كان معلم الخط في مدرستنا من أبرع الخطاطين في البلاد العربية، ولكنه كان رجلا غريب الأطوار، يهتاج لأقل خطأ، فيشتم التلميذ المغضوب عليه شتما يناله هو قبل أن ينال التلميذ؛ لأنه يبدأ كل شتيمة بقوله: يا ابني ... ثم يكيل الشتائم كيلا، فإذا هي كلها مردودة إليه.
وكان التلاميذ يهجونه لشتمهم وشتم نفسه على هذا النمط الغريب، ومنهم تلميذ خبيث أعيى أساتذته وأهله خبثا في جميع سنوات الدراسة، يملك أهله مطاحن بخارية توشك أن تحتكر طحن الغلال في المدينة.
ولم يكن من الميسور طحن مقطف من القمح في اليوم الذي يرسل فيه إلى المطحنة؛ لأنها كانت تكتظ بالمقاطف وأصحابها؛ فيبيتون إلى جوارها في بعض الأيام ...
واغتنم معلم الخطوط فرصة وجود هذا التلميذ في فصله، فجعل يستدعيه إلى المنزل ظهر كل خميس ليحمل الطحين إلى مطحنة أهله ويعود به في اليوم نفسه ...
وما أدراك ما يوم الخميس؟! ... إنه هو اليوم الذي ينتظره التلميذ بنافد الصبر ليسرح ويمرح، لا ليخزن نفسه في مطحنة تعج بأصوات الآلات وأصوات الطاحنين.
وصبر التلميذ الخبيث أسبوعا وأسبوعين وثلاثة أسابيع، ثم نفد صبره، وعول على استنجاد خبثه ... وهو لا يخذله حيث يتخابث في غير طائل، فكيف بالخبث الذي ينقذه من هذا البلاء؟!
وجملة القول أنه باع المقطفين بأبخس ثمن، ولم يذهب في يومها إلى المطحنة، ولا رجع إلى بيت الأستاذ.
وقبل حصة الخط جمعنا وهو لا يملك نفسه ضحكا، فحدثنا بما حدث ... فدخلنا الفصل ونحن نتلهف شوقا إلى ما يكون!
وكان التلاميذ يتعلمون الخط يومئذ في كراسة مذهبة تسمى «المشق»، على رأس كل صفحة منها نموذج مطبوع، تحته نموذج مفرغ بالنقط، تحته فراغ لكتابة التلميذ ...
ولا أذكر ما هو النموذج الذي كان مكتوبا في رأس الصفحة ذلك اليوم ... ولكنني أذكر أنه كان مبدوءا بحرف «ميم».
अज्ञात पृष्ठ