يقال إن الذاكرة ملكة مستبدة، ويراد بنسبة الاستبداد إلى هذه الملكة العقلية أنها تحفظ وتنسى على غير قانون ثابت، فتذكر الأمور على هواها، ولا تذكرها بقدر جسامتها واقتراب زمانها، وقد تحتفظ بأثر صغير مضى عليه خمسون سنة، وتهمل الأثر الضخم، وإن عرض لها قبل شهور أو أسابيع.
هذه الدعوى التي يدعونها على الذاكرة الإنسانية غير مكذوبة من أساسها، وفيها ولا ريب ما يوجب الشبهة، إن لم نرد أن نقول: ما يوجب الثبوت واليقين.
كل ما أراجعه من معاهد الطفولة بأسوان يصلح أن يكون شاهدا لاتهام الذاكرة بهذه المحاباة، إلى أن يثبت أنها محاباة استبداد وهوس، على أسلوب ابن عباد:
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت
يداه بالجود حتى شابه الديما
فإنها خطرات من وساوسه
يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
فمن هذه المحاباة أن بعض معاهد الطفولة يذكرني بأشياء رأيتها في الثالثة من العمر، وأشياء رأيتها في السابعة، وغيرها رأيتها في التاسعة والعاشرة، ولا أحتاج في استعادتها وإحيائها بتفصيلاتها إلى جهد عسير، بل أراها أمامي تتمثل بألوانها وأشكالها ومناسباتها كأنها من مشاهدات العيان منذ ساعات.
وإنني - مع هذا - لأجتهد بما وسعني من الجهد أن أغالب النسيان المطبق في أمور لم يمض عليها غير سنين، ثم أذكرها - بعد إعنات الفكر - فتظهر لي كأنها ملتفة بغواشي الضباب، بين الكثيف منه والرقيق ...
لكنني أعود إلى أسباب هذه المفارقات، فلا أكاد أعتقد أنها محاباة على أي معنى من معاني المحاباة، ودعنا من قول القائلين إنها وساوس ابن عباد في الهوس والاستبداد.
अज्ञात पृष्ठ