وصبرت على هذا الجهد العنيف مرتين أو ثلاث مرات أو أربع مرات، ثم تمردت دفعة واحدة، وقلت لمن جاء يوقظني: «اذهب عني، فلست بالمستيقظ ... ولست بالمصلي اليوم!»
وسمع أبي ما قلت فصاح بي: «ماذا تقول؟ ... أتقول إنك لا تصلي؟» ووثب إلى عصاه ...
فذهب بي الإصرار مذهبه، وقلت: «نعم!»
فصمت ولم يزد، وأعرض عني أياما لا يكلمني حتى تناسينا هذا الخلاف، وكنا مع ذلك نجلس إليه جميعا على الطعام في الصباح والمساء، وأحيانا في طعام الغداء. •••
وموضع الشدة في هذه المسألة أنني لم أكن أنفر من الصلاة، ولا من الفرائض الدينية، بل كنت أخف إلى المسجد بعض الأوقات، وأنشد على المئذنة أناشيد الجمعة الأولى، وظللت أنشدها بعد ذلك وأنظمها، ولا أذكر للمؤذن أنني نظمتها؛ لئلا يستصغرها ويرفض إنشادها، ولكن الشدة صدمتني لأنها كلفتني ما لا أطيق قبل الأوان، وجاءتني في معرض الإكراه والإلزام، وهي عبرة تساق للاستفادة منها في هذا المقام.
ولا أزال أذكر ملامح السرور التي رأيتها على وجه أبي حين أنشدته قصيدة من تلك القصائد التي كنت أنظمها في مدح النبي عليه السلام، فإنه تهلل واستبشر، ولعله تهلل واستبشر لنزعتي الدينية قبل براعتي في نظم الشعر أو تجويد الكتابة، ولا يلاحظ علي إلا أنني ختمت القصيدة بشطر أقول فيه على ما أذكر مشيرا إلى نفسي: «عباس من هو في الأشعار مدرارا.»
فقال: «إن الأباصيري أكبر مادحي النبي قد ختم مدائحه معتذرا عن التقصير، فافعل كما فعل، أو فاسكت عن الاعتذار وعن الإطراء.» •••
وكان - رحمه الله - يحتقر المال أن يطلبه بما يسوء في الضمير، أو يسيء إلى إنسان.
وقد كان في وسعه أن يجمع الثروة العريضة من وظيفته، فلم يكسب منها غير مرتبه، وما هو بالكثير. •••
كان أمينا «للمحفوظات» بإقليم أسوان، وكانت أسوان خارجة من القلاقل الجسام التي حاقت بها في حرب الدراويش، فمعظم أبنائها الأغنياء كانوا يتجرون في السودان، فانقطعوا هناك بعد انقطاع المواصلات، وذهبت الوثائق فلم يدر أحد ما ذهب منها وما بقي بدار المحفوظات، وتداولت هذه المحفوظات أيد كثيرة على غير انتظام في التسليم والاستلام ... وكثر المدعون للأرض والعقار؛ اعتمادا على ضياع الوثائق وغياب المالكين وموت بعض الوارثين، فلو شاء أبي في هذه الفترة أن يخفي ويظهر، وأن يقبل المساومة والإغراء، لقاسم الكثيرين فيما يدعون أو فيما يملكون، ولكنه أوصد هذا الباب فلم يطمع فيه طامع، وسلم دار المحفوظات لمن بعده، وهي مثل في الدقة والضبط وسهولة المراجعة والإحصاء. •••
अज्ञात पृष्ठ