136

فكأنما هي مواد في قدر تغلي وتضطرب ...

ففي إبان الشباب الأول كان الغليان شديدا، فكانت هذه المواد تذوب وتتحلل، ويختلط لون منها بلون، وعنصر منها بعنصر، ولا تني صاعدة هابطة لا تلمحها إلى اليمين حتى تراها إلى الشمال، ولا تهم بأن تحصرها وتعرف مقدارها حتى تغيب عنك وتفلت من الإحصاء.

أما فيما بعد ذلك فقد جنحت إلى الاستقرار فأمكن أن تراها، وأن تحصرها وأن تعرف معادنها وألوانها، وقد رسب منها ما رسب ، وطفا منها ما طفا، وقل اختلاطها وتميزت ألوانها؛ فسهل من إحصائها ما كان صعبا، وأسلس من بيانها ما كان عصيا، ولكنها في جميع الناس هي هي بلا زيادة ولا نقصان.

فالسن لا تغير الطبائع ولا تضيف إلى عناصر النفس، أو تأخذ منها، ولكنها تعرفنا بمقاديرها ومواقعها، وتنقلها من غليان مبهم إلى استقرار واضح، ولكل من هاتين الحالتين فضله ورجحانه، ففي الغليان قوة وفي الوضوح معرفة، والمعرفة مع ذلك قوة للعارفين ...

ذلك مجمل ما يقال في التغيير الذي طرأ علي بين العشرين والأربعين من حيث التفكير، ولا سيما في المسائل الكبرى، ثم من حيث الأخلاق والبواعث النفسية. •••

أما شئون المعيشة أو ما يسمى في بعض الأحيان بفلسفة العيش، فالاختلاف فيه بين العشرين والأربعين غير قليل ...

ففي العشرين كنت كالمسافر الموعود في رحلته بأمتع المناظر وأعجب المفاجآت، فلا يزال يعرض عما يراه؛ لأنه دون ما كان ينتظر ويتخيل، ولا يزال مستهينا بالحاضر أملا فيما يليه.

أو أنني كنت في العشرين كالجالس على المائدة وهو يظن أن أطايب الطعام لا تزال مؤخرة محجوزة؛ لأنه لم يجد أمامه طعاما يستحق الإقبال ...

فهو لهذا يصيب منها القليل، ويعف عن الكثير، ويزهد فيما بين يديه ويتشوق لما بعده.

حتى إذا أشفق أن ينهض جائعا تناول مما بين يديه في اعتدال؛ فأمن الجوع، وأمن فوات المقبل الموعود. •••

अज्ञात पृष्ठ