وداخلني سخط شديد لا عليه وحده، بل على نفسي أيضا، فكيف عميت عن هذا الرجل ورضيت بأن أتخذه رفيقا في سبيل الربح من التجارة؟ وكيف سمحت لنفسي أن أقرن نفسي به وأنا كبير عاقل، وهو الذي نفرت من صحبته وأنا صبي جاهل.
ونزلت إلى المدينة سالكا طريقي المعتاد حتى بلغت جانب الترعة، وكان الجو دافئا يتنفس بروائح الخريف.
وكانت الساعة عند ذلك الثالثة بعد الظهر، فعزمت على أن أجول بين الحقول بقية النهار، وكان معي كتاب جديد من الكتب التي ظهرت بعد الحرب، وعنوانه بالإنجليزية معناه: «المدينة الفاضلة»، وهو يتحدث عن المآسي التي أصابت المدنية الأوربية من فساد الأحكام واضطراب النظم، وفساد القائمين على تلك الأحكام والنظم، الحال واحدة في كل مكان مع فارق واحد، وهو أن الناس هناك يكتبون عن عيوبهم ليلتمسوا الدواء لها.
وكانت أشعة الشمس الخافتة ترنو كالمريضة إلى العالم الذي تتمسك بالبقاء فيه، وأوراق الشجر تلمع من أثر قطرات خفيفة تتساقط من غمامة عابرة.
وبقيت هناك إلى ساعة الغروب، ثم عدت إلى المدينة، وكانت رائحة الهواء رطبة تفوح بعبق عطن لا أستطيع وصفه، ولكنه يثقل على الصدر، ولما وصلت إلى شارع المديرية سمعت ضجة بعيدة في ميدان المحطة، فاتجهت إلى هناك مسرعا، وكان الميدان يموج بجموع كبيرة من شبان وأطفال يلوحون بأيديهم ويتواثبون في اضطراب، وعلا صوت هتاف من وسط الميدان، فذهبت إلى قريب من سور المحطة لأعرف ما هناك، وضحكت ضحكة مرة عندما تبينت أنها مظاهرة سياسية، وكان الهتاف يتعاقب بين حياة السيد أحمد جلال وبين سقوط محمد باشا خلف.
ورأيت عن بعد شابا محمولا على الأكتاف يهز يديه في عنف، ويصيح بأعلى صوته متأنقا في ندائه يوقعه توقيعا منظما كأنه منشد محترف: يحيا السيد أحمد جلال، يحيا حاتم دمنهور! يحيا المخلص الأمين، وكان يفصل بين كل حياة وأخرى بهتاف آخر من السقوط للمنافس البائس، وكدت أنصرف من الملال لولا أن سمعت صفيرا عاليا يشبه صفير حمادة الأصفر، أيكون هو ذلك الشاب المحمول على الأعناق؟ ولم يخب ظني عندما شققت الصفوف واقتربت منه، فإنه كان عند ذلك ملتفتا في اتجاهي، وأخذ يلقي على الجمع المحتشد حوله حداء والجمع يردد وراءه اسم السيد أحمد جلال: المحسن الكريم، السيد جلال، الوطني الكبير، السيد أحمد جلال وهكذا حتى أتم نحو عشرين حداء، والجموع تردد اسم السيد من ورائه.
وضحكت برغمي مع شدة حنقي؛ فإن حمادة كان حقا بارعا في تمثيل دوره، ولما فرغ من حدائه رفع يده إلى فمه فصفر صفيرا عاليا انطلقت بعده ضحكة من الجمع الكبير، ولم أستطع أن أمنع نفسي من المشاركة فيها، ثم نزل من فوق الأكتاف، وأخذ المتظاهرون ينصرفون في اتجاهات شتى، وبقيت أنا في مكاني مستغرقا في دهشتي، واقترب مني حمادة بعد أن هدأ الزحام وناداني قائلا: ماذا تصنع هنا يا سيد أفندي؟
فقلت ضاحكا: أتفرج عليك.
فمد يده نحوي مسلما وقال: وماذا تظن يا عم؟ أنموت من الجوع أم ننتحر؟ هات نقودا أصفر لك وأصفق وأهتف، أتظن أني أبله؟ خمسة جنيهات كاملة من أجل شغلة ساعة.
فقلت: فقط؟
अज्ञात पृष्ठ