فقلت في لهجة الند: لا أطلب غير هذا.
ولمعت عيناه لمعة لم أعرف معناها عندما قال: هذا القطن يساوي خمسة عشر جنيها للقنطار.
وفي لمح البصر حسبت مقدار ربحي، مائتين وخمسين جنيها، وهزتني موجة من السرور.
وتبسم السيد أحمد بسمة في لون من الدهاء قائلا: هذه أسعار اليوم إلى هذه الساعة كما أعرف، ومن يدري؟ لست أعرف إذا كان هذا السعر يزيد أو ينقص بعد ساعة واحدة، ولك الخيار طبعا في أن تبيع الآن أو في الغد.
فقلت متكلفا الهدوء: لا مانع من البيع الآن.
فقال في بساطة: اشتريت يا سيد أفندي، والقطن كله من نفس العينة. هذا مؤكد طبعا!
فقلت: هذا مؤكد.
وواعدته أن أحضر إليه غدا في الصباح بالبضاعة، وكنت متفقا مع الشرنوبي على أن يصل القطن إلى دمنهور قبل طلوع الشمس، وخرجت من المكتب بعد أن صافحت السيد أحمد جلال رافعا رأسي، واتجهت إلى القهوة التي واعدت حمادة أن ألقاه فيها، وأنا أكاد أطير من الفرح، ولكني لم أجد حمادة هناك، فشربت فنجانا من القهوة، وجعلت أحدث نفسي مستعيدا كلمات السيد أحمد جلال وحركاته وملامح وجهه، ماذا قصد بقوله معاملة الند للند؟ وماذا كان يظن من قبل؟ ولماذا قبل أن يشتري القطن في هذه الليلة إذا كان يخشى أن يهبط السعر بعد ساعة؟ وتذكرت قول مصطفى عجوة عنه إنه مثل بئر عميقة لا يعرف أحد قرارها، وبدأت أشعر بشيء من القلق، وانتظرت ساعة طويلة ولكن حمادة لم يحضر، وكنت متعبا بعد جهد اليوم وبعد سهر الليلة الماضية فقمت ذاهبا إلى بيتي ولم ألبث أن نمت نوما عميقا.
وبكرت في الصباح خارجا إلى ميدان المحطة كما واعدت الشرنوبي، وكانت السيارات هناك محملة، وذهبنا إلى المحلج ولكن السيد لم يكن هناك بعد، فجلسنا ننتظر في المكتب، وكان به بعض مجلات وصحف أخذنا نتصفحها بغير اهتمام، وكانت عناوينها الكبيرة كالعادة تغني عن قراءة ما تحتها، ثم وجدت قصة في جريدة «بريد الأحرار» وعجبت كيف يجرؤ أصحاب الصحف على نشر مثل هذا السخف، وكيف يرضى الناس أن يقرءوه. كانت قصة فتى مدله بغانية متزوجة تعبث به كما تعبث بزوجها. مرحى! ورميت بالجريدة حانقا، ولكني عدت فأخذتها وأخذت أعيد قراءتها متأملا أسلوبها، كان حقا أسلوبا بارعا خفيفا سهلا يحمل على القراءة بما فيه من إغراء، ولو تأتى هذا الأسلوب البارع لرأس ملأى وقلب كبير ونظرة عميقة في شئون الحياة لكان أدب هذا الشباب الناشئ جديرا بكل إعجاب. إنه أسلوب تخلص من التكلف والغموض والحذلقة التي كانت تجعل من الأدب لغزا يحتاج إلى الحل قبل أن يفهم، ولكن أدباء الشباب لا يريدون أن يرتفعوا بالحياة؛ لأنها تغرقهم وتجرفهم معها، والأديب لا ينبغي له أن يغرق في الحياة ولا أن ينجرف معها، هو يعيش فيها ولكنه يسبح فيها ويعرف اتجاهه، هكذا كنت أفكر عندما دخل السيد أحمد جلال وقطع علي التفكير بتحيته السمحة.
وعندما سلم علي الشرنوبي تبسم قائلا: هذا صاحب القطن؟
अज्ञात पृष्ठ