وأحنت رأسها باسمة ثم انصرفت مسرعة، ولو كانت السماء مفتوحة عند ذلك لانطلقت إليها لأن الأرض كانت لا تسعني، وسرت في الطريق والهواء البارد يرحب بي ونور السماء الخافت يبتسم لي والرذاذ المتساقط يرف على وجهي رفيقا والكون كله يغني، وكان المطر يتزايد وأنا سائر حتى صار يهطل عندما وصلت إلى السوق، وملت على دكان فاكهي فاخترت أحسن ما عنده وبعثت به الصبي إلى بيت السيد أحمد بعد أن نفحته بقطعة من ذوات القرشين، وطلبت منه أن يعود إلي في القهوة المجاورة بعد أن يوصل الفاكهة إلى البيت، وكانت تلك القهوة مكانا مختارا لكثير من زملائي في المحالج، ورأيت جمعا منهم يضحكون بأصوات عالية حول اثنين منهم يلعبان النرد، وكان جو القهوة خانقا ولكنه كان دافئا فخلعت سترتي ونصبتها على كرسي لتجف من أثر المطر، ثم جلست وحدي على منضدة بعيدا عن الزحام، وطلبت فنجانا من الشاي لأستدفئ، وبعد قليل عاد صبي الفاكهي وأعطاني ورقة صغيرة فيها كتابة باللغة الفرنسية: «ألف شكر.» وتحتها الاسم العزيز «منى»، وقرأت الورقة مرارا ثم دسستها في جيبي وأعطيت الصبي قطعة أخرى من ذوات القرشين، ففرح بها وابتسم بسمة عريضة ورفع يده إلى طرطوره مسلما وجرى خارجا، فأخرجت الورقة من جيبي وجعلت أنظر فيها، وكان خطها أنيقا نظيفا واضحا صريحا أو هكذا تصورته وأنا أرى فيه صورة منى كأنها زنبقة، وأخذت أشرب من الشاي الساخن وأنا أردد بصري في الورقة مستغرقا في تأملها حتى تنبهت على حركة في الناحية الأخرى من المنضدة، فالتفت في غير اهتمام لأرى أمامي وجه مصطفى عجوة باسما بسمته الكالحة، فانقبض صدري وأسرعت إلى دس الورقة في جيبي وعدت أشرب من الشاي في صمت، وكنت لم أجتمع به منذ ليلة رمضان العاصفة، فخطر لي عندما وقعت عيني عليه أن أسرع في شرب الشاي ثم أنصرف إلى منزلي لأتغدى ثم أعود إلى المحلج.
ولكنه شرع يحدثني فقال: أأنت غاضب مني؟
فلم أجبه، وأخذت أرشف بقية الشاي، ولكنه لم يخجل وعاد يحدثني مخلطا بأقوال شتى تافهة لا تعنيني، ومن العجيب أنني بدأت أستمع إلى أقواله بشيء يشبه الرضى أو الارتياح إلى استطراده من موضوع إلى آخر، وأعجب من ذلك أنني بدأت أرد عليه وأبادله الحديث بعد دقائق، وكان منظر وجهه الغليظ الأزرق بما فيه من حفر صغيرة يشبه في عيني قطعة عجيبة من صنع الطبيعة، وخيل إلي أنه من قبح تفاصيله يستهوي البصر في مجموعه، وما زال يستدرجني في الحديث حتى سألني: أتعرف محمود بن محمد باشا خلف؟
وكان سؤالا غريبا لا موضع له ولكن غرابته جعلتني أتطلع لما بعده.
فأجبته قائلا: «كان تلميذا معي في المدرسة.» وكان محمود هذا صبيا سخيفا مغرورا غبيا، تعود أن يرشو جيرانه ليملوا عليه الإجابة، وكان كلما قابلنا فتح لنا كفيه قائلا: «انظروا إلى هذا الوسخ الذي في يدي، إنه صدأ الذهب الذي في خزانة أبي.» فكنا كلما لقيناه بدأناه قائلين: «أرنا كفيك يا محمود.» فيفتحهما ويعيد كلمته المعروفة، وكنا نضحك منه كثيرا وهو مغتبط بضحكنا، وكان ثرثارا كثير الادعاء يفاخرنا دائما بأنه يأخذ كل يوم دروسا خاصة في منزله، وكنت أتمثل صورته باسما عندما قال مصطفى: حظوظ يا سيد أفندي. الدنيا حظوظ.
وخبط بيده على المنضدة كأنه حانق.
فقلت له: ماذا تقصد؟
فقال في همس: ألم تسمع بما حدث؟
فثار تلهفي على السماع وقلت في اهتمام: ماذا حدث؟
فقال وهو يصرف وجهه عني: النهاية يا سيد أفندي، لا فائدة.
अज्ञात पृष्ठ