فقلت: لا أقصد ذلك، بل أقول لك إنه صديق يعمل دائما على إظهار مودته لنا، وما هذه الموائد إلا لفتة كريمة لا تستحق إلا الشكر.
فقال مستمرا في سخريته: أي شكر يا عم؟ هو يقطع من لحمنا ليطعمنا، فدعنا نأكل لحمه ونقطع فروه.
وانطلقت عند ذلك ضحكة عالية من الحلقة كلها، وكان لها وقع بشع في نفسي، فقمت من بينهم وقلبي ثائر وصدري منقبض حتى وصلت إلى بيتي، فأفطرت بشيء يسير وأنا كاسف البال، وفي الليالي التالية عزمت على أن أسبر غور الحلقات الأخرى، فكنت أستمع إلى فكاهاتهم ومناقشاتهم، وتبينت أن السيد أحمد جلال لا يطعم إلا بطونا جائعة. كانت قلوب الجميع لا تحمل له مودة ولا تجزيه في قرارتها إلا بالسخرية أو الحقد.
وذهبت ذات ليلة كعادتي إلى بيت السيد أحمد جلال لأقضي السهرة بعد أن فرغت من تعهد إفطار الفقراء، وكان السيد جالسا في حلقة ضيوفه المعتادة، وسمعت أول ما سمعت من حديث الجالسين قول الشيخ القرش: ما رأيكم في أن نسمي السيد أحمد جلال «حاتم دمنهور»؟ فتعالت الأصوات بالموافقة وأخذ السيد أحمد يقول في تواضع: أستغفر الله!
وكنت أعرف الشيخ القرش منذ نشأتي، وهو تاجر عجيب الطباع بدأ حياته فلاحا فقيرا، ثم صار طالب علم بالأزهر، ولكنه قضى عشر سنوات في دراسة لم تفده شيئا سوى عمامة كبيرة، فاشتغل بالتجارة، واتخذ لنفسه دكانا صغيرا في السوق يجمع فيه أنواعا من البضائع لا صلة بينها، من الطعام والبقول والملابس والأواني، كما جعل عند مدخله صندوقا لبيع السجائر وآخر للمرطبات المثلجة، وكان يضع أمام دكانه بعض الكراسي ويجمع عليها بعض أصحابه، فإذا جاء وقت الصلاة قام ليصلي بهم جماعة فوق الرصيف، وكان من أقواله المأثورة: «القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود.» كما كان يقول دائما إذا سئل عن أصله: «أصلك قرشك.» لهذا سماه الناس بالشيخ القرش، وكان معروفا بينهم بالحماقة والشراهة والرياء.
ولا شك أن وجهي كان ينم عن الغيظ عندما سمعته يستمر قائلا للسيد أحمد: لسنا وحدنا نقول هذا، لهؤلاء المئات من الفقراء يقولونه وهم يأكلون طعامك.
وكنت منذ أيام أفكر في أن أتحدث إلى السيد أحمد في إبطال هذه المآدب التي يقيمها ولا يجزى عليها بالشكر، وأقترح عليه أن يزيد في أجور عماله بمقدار ما ينفقه عليها من الأموال، فلما سمعت قول الشيخ القرش نظرت إليه حانقا.
وأحس الرجل بمعنى نظرتي، فاتجه إلي قائلا: ما رأيك يا سيد أفندي؟
فشعرت بأن لساني يلتصق في سقف حلقي، وأن الدم يصعد إلى وجهي. أأكذب وأوافقه؟
ولما رأى الشيخ ترددي صاح في حماقته: هل يجرؤ أحد أن يكابر إلا أن يكون أعمى؟
अज्ञात पृष्ठ