ولم يحاول مصطفى أن يرد على الاعتداء بمثله، مع أنه كان في مثل طولي، وأضخم مني جسما، بل رفع ذراعه إلى رأسه ليحمي وجهه، وأخذ يصيح قائلا: «شاهدين يا جماعة؟»
وتعالت الأصوات مختلطة، وتقدم أفراد كثيرون ليحجزوني عنه وشهدوا علي بالاعتداء، وألزموني أن أسقيهم جميعا كئوسا من شراب الخروب ففعلت.
هكذا انحدرت مع هذه الزمرة إلى حياة مضطربة مدة الصيف كله، وعزفت نفسي عن مواصلة الدراسة عندما بدأ العام الدراسي الجديد، وعزمت على الانقطاع لأبحث عن عمل أتكسب منه، وأعلنت لأمي في صراحة أنني لن أطيق الاستمرار في المدرسة، ولم أعبأ بالحزن الشديد الذي أصابها.
ولما رأت أمي أنني ركبت رأسي صرفت وجهها عني، ولزمت الصمت حتى صارت لا تخاطبني في شيء.
ولكن ذلك لم يزدني إلا عنادا، وعزمت فيما بيني وبين نفسي على أن أظهر لها أنني لست طفلا، وأنني أستطيع أن أثبت وجودي وأشق طريقي في الحياة، ولكني عندما بدأت أفكر في البحث عن عمل لم أجد أمامي بابا أستطيع أن أطرقه، لأني كنت قليل الخبرة لا أكاد أعرف عن الوظائف شيئا، وكان أول ما خطر لي أن أشتغل بالتحرير في الصحف؛ وذلك لأني كنت في المدرسة عضوا في لجنة المجلة، وكان التلاميذ والمدرسون يسمونني «الكاتب الصغير»، ويطلبون مني أن أقرأ عليهم القطع التي أكتبها ويظهرون الإعجاب بها، وخيل إلي أنني إذا أرسلت مقالا من إنشائي إلى إحدى الصحف لم ألبث أن أتلقى الرد محتويا على بضعة جنيهات أذهب بها إلى أمي لأقول لها: «انظري كيف أكسب!» وقضيت بضع ليال في الكتابة حتى أتممت بضع مقالات وكتبتها بخط حسن في ورق جيد، وبعثت بها إلى الصحف المعروفة، ولم أنس أن أبعث بإحداها إلى جريدة «النبراس» في دمنهور.
ولا حاجة بي إلى أن أقول: إن انتظاري قد طال عبثا ولم أجن من وراء مقالاتي إلا خسارة أثمان الصحف التي كنت أشتريها كل يوم أو كل أسبوع لأرى هل نشرت شيئا من كتابتي. هذا فوق ما خسرته في ثمن الورق والظروف وأثمان طوابع البريد وزجاجة من الحبر الممتاز.
وكدت يوما أطير فرحا عندما قرأت مقالة باسمي في جريدة «النبراس»، ولكني لم أتلق الخطاب المنتظر الذي يحتوي على الجنيهات.
ولما يئست من التكسب بالتحرير في الصحف فكرت في الاشتغال بالأعمال الكتابية في الوظائف الحكومية، فبعثت إلى مصالح كثيرة أعرض عليها استعدادي للعمل، وكلفني هذا أيضا ما يزيد على خمسين قرشا في أثمان الورق وطوابع التمغة وطوابع البريد، وانتظرت أسبوعا بعد أسبوع متلهفا على الردود، ولكن لم يصل إلي رد منها.
وبدأت أحس بالضيق من البطالة فوق إحساسي بالخجل والخيبة؛ لأني لم أثبت وجودي، ومر الخريف والشتاء وبدأ الهم يثقل على صدري، فكنت أخرج إلى الريف المجاور للمدينة لأفرج عن نفسي بالنزهة بين الحقول في مطالع الربيع، وكان جمال منظر حقول القمح وهي تختلف من الخضرة إلى الصفرة يأخذ بمجامع قلبي، فأجلس بينها وأكتب ما يخطر لي من الأفكار، أو أؤلف ما يجيش في صدري من الأشعار، وكان أكثر ذلك تعبيرا عما كان يجثم على قلبي من الضيق والحيرة.
ورأيت في يوم من الأيام إعلانا عن وظيفة بمجلس المديرية فكدت أطير فرحا، وخيل إلي أن الأقدار قد ساقت إلي تلك الوظيفة عمدا واختارتها في دمنهور من أجلي، وكتبت طلبا تأنقت في إنشائه وجودت خطه، وذهبت لأقدمه إلى رئيس المكتب بنفسي حتى لا أضيع يوما في إرساله بالبريد، ولما ذهبت إلى ديوان المجلس أخذت أسأل عن رئيس المكتب، فدلني أحد الحجاب على حجرته وهو يبتسم، فاستبشرت بالخير ودخلت إلى الغرفة، وكان فيها ثلاثة يجلس أحدهم في الصدر خالعا طربوشه ويأكل من طبق أمامه فيه بقية من الفول المدمس، فعرفت أنه الرئيس وتقدمت نحوه مترفقا وقلت: حضرتكم الرئيس؟
अज्ञात पृष्ठ