9
اشتد الاحتقان في المجتمع المصري، وتفاقم بوصول عمليات العنف الإرهابي لشوارع القاهرة، فسلكت السلطة طريقين؛ طريق التفاوض مع الجماعات الدينية المسلحة بين مجلس شورى جماعة الجهاد، داخل السجن بقيادة عبود الزمر، وكبار ضباط مباحث أمن الدولة، لكن السلطة اتجهت أيضا إلى تجنيد المثقفين في معركتها ضد الإرهاب والتطرف بدعوة من «أسامة الباز»، مستشار الرئيس، لمجموعة من المثقفين والكتاب والمفكرين الذين اشتهروا بروح المعارضة والنقد. وفي هذا السياق حدثت عملية إحلال رؤساء تحرير جدد لمجلات وزارة الثقافة، بهدف استيعاب رموز المعارضة الثقافية في العهدين السابقين لمثقفين تعرضوا للاضطهاد بدرجات في العهد السابق، وكانوا شديدي النقد للمثقفين الذين تعاونوا مع نظام «السادات» بدعوى التغيير من الداخل؛ فها هم أنفسهم تتغير وجهة نظرهم حين بدت لهم مخاطر الإرهاب بمدينة القاهرة. حركة سريعة للمثقف من أجل إطفاء الحريق الذي يكاد يلتهم السلطة؛ فليس لدى المثقف وقت لإنجاز صيغته التنويرية من خلال تحليل واع ونقد خلاق، بل نهلل للتنوير المعلب سابق التجهيز ونرفع أعلامه وشعاراته. وهذا التحرك لا يختلف في بنيته عما يفعله النقيض السلفي، حتى إن «جابر عصفور» بدأ يكتب: «من التنوير إلى الإظلام، ولماذا ينتكس التنوير؟!» في مجلة «إبداع». ما تفعله السلطة مجرد توجه نفعي للخروج من أزمتها. وها هو ود. «مصطفى هدارة» يرسل رسالة لرئيس الجمهورية كبلاغ في رؤساء تحرير المجلات الثقافية، ونشرتها مجلة «إبداع» عدد أبريل اثنين وتسعين.
بينما يخرج الكاتب «فرج فودة» من مكتبه بمدينة نصر السادسة مساء الثامن من يونيو بصحبة ابنه وصديق، وقد فتح عليهم النار عضوان بالجماعة الإسلامية يركبان دراجة بخارية ليقتل «فرج فودة». لقد استهدف الإرهاب المفكرين أيضا. عكفت على دراسة فكر النهضة في القرنين الماضيين في بحث نشر بمجلة «القاهرة» أكتوبر اثنين وتسعين، بعنوان «مشروع النهضة بين التوفيق والتلفيق». لقد قامت معادلة النهضة عندنا على محاولة التوفيق بين التراث العربي الإسلامي، والذي تم ضمه وتوحيده بجوهر الإسلام، وبين التراث الأوروبي الغربي، والذي تم تركيزه في الاكتشافات العلمية وثمارها التكنولوجية؛ فأصبح الإسلام مرجعا لتقبل الوافد الغربي، ولعب التراث الغربي دور المعيار لسلامة فهم الإسلام ومشروعية تأويله؛ ف «رفاعة الطهطاوي» (1214ه/1801م-1289ه/1873م) كان مشغولا بالتصالح مع أوروبا التي كانت في وقته بمثابة الخصم المتفوق علينا، وليست بعد العدو المستعمر، لكن التعارض بدأ يتبلور مع انكشاف الوجه الاستعماري للاحتلال الأوروبي.
ومع التعارض كانت الحاجة إلى التوفيق بين الطرفين، والذي تم بالتفتيش داخل التراث عن مبررات لقبول ما هو صالح من منتجات الغرب العقلية والفكرية والاجتماعية والسياسية. وهذا ما قام به «جمال الدين الأفغاني» (1252ه/1838م-1313ه/1897م) و«محمد عبده» (1264ه/1849م-1321ه/1905م) بالبحث عن النافع من تراثنا الذي يمكن أن يلتقي مع النافع في نتاج الحضارة الأوروبية، وإن كان مفهوم النافع اتسع قليلا من منافع مادية إلى منافع فكرية وعقلية، لكن ظل مبدأ المنفعة هو المسيطر، مع ازدواجية النظر إلى الغرب كقوة احتلال، وأوروبا القرن الثامن عشر، وعصر الأنوار؛ فوقع العقل العربي بين من ينشدون الاندراج في سياق الثقافة الأوروبية ناظرين إلى أوروبا عصر الأنوار، وبين من ينشدون الانسلاخ عن الشيطان الأوروبي الغربي، محتمين بالهوية الإسلامية ناظرين إلى أوروبا الاستعمارية المتأهبة بجيوشها وأساطيلها لابتلاع العالم الإسلامي عامة، والعربي بصفة خاصة.
ازدادت الازدواجية تعقيدا؛ لأن التراث الإسلامي العقلاني المؤهل للتواصل مع أوروبا عصر الأنوار هو التراث الاعتزالي، وتراث «ابن رشد» على المستوى اللاهوتي والفلسفي، و«الرازي» و«ابن الهيثم»؛ فهو تراث مهمش في ثقافتنا. من هنا نفهم التردد عند «محمد عبده» بين أخذه بمفهوم الأشاعرة عن التوحيد، وجاوره بمفهوم العدل عند المعتزلة، والذي يتيح تفسير السببية التي يقوم عليها العلم التجريبي الحديث، وتردده في مسألة قدم القرآن وخلقه؛ المفهوم الذي حذف في الطبعة الثانية من كتابه «رسالة التوحيد» نتيجة للتردد بين مفاهيم الأشاعرة والمعتزلة. ونلاحظ التردد في منهجية «طه حسين» (1305ه/1889م-1329ه/1973م)؛ فالقراءة المتعمقة لكتابه «في الشعر الجاهلي» تكشف تجاورا بين منهجين لم يتم التركيب بينهما؛ منهج الشك عند «ديكارت»، ومنهج علماء الحديث في نقد الرواية كما يتمثل في نقد «محمد بن سلام الجمحي» للشعر (139ه/765م-232ه/861م)، لكن التناقض الحقيقي في منهج «طه حسين» تجده في مسألة اعتبار القرآن مرجعا تاريخيا للحياة الجاهلية وإنكار نفس المرجعية بالنسبة لقصص الأنبياء. وحدثت عنده انتقالة لمعادلة النهضة قليلا عن جيل «محمد عبده»، حيث أصبح الغرب عند «طه» أداة منهجية لتحليل التراث وفهمه ونقده.
الدافع النفعي المباشر حول عملية التوفيق بين طرفي معادلة النهضة إلى عملية تلفيق؛ فقد احتفظ كل من الطرفين بتمايزهما، بحيث إذا أمكن إسقاط أحد طرفي المعادلة، احتفظ الطرف الآخر بكل قوته وجبروته، وهذا ما نلمسه الآن من الانحسار بين التبعية الكاملة للغرب اقتصاديا وسياسيا وفكريا بالشروط الاستعمارية، وبين السلفية الرجعية الكاملة؛ فالتبعية تفضي إلى الديكتاتورية والاستغلال ومحاصرة الإنسان باسم التغريب والحداثة، وتفضي السلفية إلى نفس النتيجة لكن باسم الدين والتراث في مجال تحقيق الهوية الخاصة؛ فحين يتبنى السياسي مشروعا فكريا ويطلب من المفكر معاونته في تحقيقه على أرض الواقع، فيبرر المفكر الغايات النفعية المباشرة للسياسي في الحالة الأولى، ويبرر السياسي الوسائل والغايات في الحالة الثانية؛ فإن هذه هي آفة النهضة؛ لأن المشروع الفكري ولد في رحم المشروع السياسي، «فعجز المفكر عن قطع الحبل السري الواصل بين إنتاجه الفكري وممارسة السياسة - سواء كان في صفوف المؤيدين أو المعارضين - جعل عين الممارسة الفكرية على اليومي والآني والمباشر، ولم تتحرك داخل حدود الفكري الجوهري والعلمي إلا قليلا.» ولهذه التلفيقية في تاريخنا القديم أمد بعيد.
وسواء تحدثنا عن معادلة النهضة في بعدها السياسي من «محمد علي» إلى «جمال عبد الناصر»، أو بعدها الفكري من «رفاعة الطهطاوي» إلى «حسن حنفي»، فهي عملية نخبوية تستبعد الجماهير استبعادا تاما من المشاركة. ولا سبيل إلا بالخروج من حكم النخب العسكرية أو القبلية أو الطائفية المستندة إلى حقوق الوراثة المرتكزة على مبدأي القوة والقهر؛ وذلك بالديمقراطية بمعناها الشامل، ديمقراطية العقل، وديمقراطية الحياة، بحق البشر المتساوي في جني ثمار الناتج القومي، وديمقراطية السياسة بحق تداول السلطة والمشاركة فيها عبر المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية. إن وصاية المثقف والسياسي تنتهي كلتاهما إلى نتيجة واحدة؛ الديكتاتورية السياسية المطلقة من جهة، وكهنوتية الفكر من جهة أخرى؛ فالوصاية تفضي إلى تثبيت الوعي الناقص وتأييده.
10
نشرت مجلة «أدب ونقد» في نوفمبر اثنين وتسعين مقالي «قراءة التراث في كتابات أحمد صادق سعد»، و«أحمد» كاقتصادي قام بقراءة كتاب «الخراج» ل «أبي يوسف» (113ه/738م-182ه/809م) تلميذ «أبي حنيفة»، وقراءة «أحمد» تمثل تيار القراءة الواعية للتراث بوصفه استجابة لظروف تاريخية موضوعية لم تعد قائمة، خلافا للمنهج التقليدي الذي يعتمد التراث إطارا مرجعيا شاملا يتحول معه الخطاب إلى ترديد مقولات وعظية إرشادية؛ فالتوصل إلى أن الإنتاج والموارد في مجتمع العصر العباسي - عصر «أبي يوسف » - كانت وقفا على الطبقة الحاكمة والسلطات الاقتصادية مركزة في يد الخليفة. و«أبو يوسف» بعكس أستاذه «أبي حنيفة» تبنى أيديولوجية السلطة، فاختفى من فكره مفهوم التطور الاقتصادي ودور السوق، لكن دراسة «أحمد صادق سعد» لم تستطع تفسير كثير من الظواهر الاقتصادية في مجتمع «أبي يوسف».
عدت إلى دراسة آليات الخطاب الديني المعاصر من خلال الدراسة التي قدمتها في مؤتمر «النص والسياق» بكلية آداب القاهرة في أكتوبر سنة تسعين، ونشرت الدراسة بمجلة «القاهرة» في يناير ثلاثة وتسعين، والذي يأخذ من تأويل نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف آلية من أهم آلياته على الإطلاق في طرح مفاهيمه وأفكاره؛ فالتأويل المنتج لدلالة النصوص يتطلب اكتشاف المعاني بتحليل مستويات السياق المختلفة. والخطاب الديني يتجاهل بعض هذه المستويات إن لم يتجاهلها جميعا؛ من أجل بحثه عن دلالة محددة مسبقا، فهل قدسية مصدر النصوص الدينية يجعلها لا تخضع لنفس قوانين التكوين والبناء للنصوص غير الدينية، طبعا دون أن يتطابقا؟ ف «عبد القاهر الجرجاني» (ت: 471ه/1107م) وصل في دراسته لقضية إعجاز القرآن إلى أن دراسة الشعر والنصوص الأدبية عامة، واكتشاف قوانين تشكيلها، وكيفية إنتاجها للدلالة، مدخل ضروري لا غنى عنه لدراسة النصوص الدينية. وإن كان «عبد القاهر» قد وقف في اكتشاف القوانين عند حدود الجملة أو قوانين النظم، فأنا أستلهم مغزى إنجازه بالنسبة لهمومنا المعاصرة. في الدراسات اللغوية الحديثة، حيث المرسل والمستقبل يجمعهما نظام لغوي مشترك مستقل وموجود قبلهما، المرسل يستخدم هذا النظام بطريقة فينتج نصا، والمستقبل له إطار تفسيري يقوم من خلاله تقييم الرسالة، فهل يمكن فهم النصوص الدينية - القرآن خاصة - خارج السياق الثقافي المعرفي للوعي العربي في القرن السابع؟
अज्ञात पृष्ठ