مُقَدِّمَةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رَبِّ أَعِنْ
अज्ञात पृष्ठ
، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ السِّلَفِيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ ﵁: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُشَرَّفِ بْنِ الْمُسْلِمِ الْأَنْمَاطِيُّ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الدَّقَّاقُ بِمِصْرَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ طَالِبٍ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَلَّادٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ بِرَامَهُرْمُزَ، بِقِرَاءَتِهِ عَلَيَّ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: هَذَا ذِكْرُ الْأَمْثَالِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَهِيَ عَلَى خِلَافِ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ كَلَامِهِ الْمُشَاكِلِ لِلْأَمْثَالِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ مُتَقَدِّمِي الْعَرَبِ، فَإِنَّ تِلْكَ تَقَعُ مَوَاقِعَ الْإِفْهَامِ بِاللَّفْظِ الْمُوجَزِ الْمُجِلِّ، وَهَذِهِ بَيَانٌ وَشَرْحٌ وَتَمْثِيلٌ يُوَافِقُ أَمْثَالَ التَّنْزِيلِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ ﷿ بِهَا وَأَوْعَدَ، وَحَرَّمَ وَأَحَلَّ، وَرَجَّى وَخَوَّفَ، وَقَرَّعَ بِهَا الْمُشْرِكِينَ وَجَعَلَهَا مَوْعِظَةً وَتَذْكِيرًا
1 / 8
، وَدَلَّ عَلَى قُدْرَتِهِ مُشَاهَدَةً وَعَيَانًا وعَاجِلًا وَآجِلًا: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
١ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ مُطَيِّنٌ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ، ثنا يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ، وَالْمَعَافِرِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ شُفَيًّا الْأَصْبَحِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: «حَفِظْتُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَلْفَ مَثَلٍ»
٢ - حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ هَارُونُ بْنُ يُوسُفَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ح وَحَدَّثَنَا ⦗١٠⦘ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى عَبْدَانُ، ثنا عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ خَالِدٍ النُّمَيْرِيُّ، ثنا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ التَّمَّارِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا، فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ وَأَكْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُطِيفُونَ بِهِ، وَيَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، لَوْلَا مَوْضِعُ هَذِهِ اللَّبِنَةِ، أَلَا فَكُنْتُ تِلْكَ اللَّبِنَةَ" قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا مَثَلُ نُبُوَّتِهِ ﷺ، وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبِهِ تَتِمُّ حُجَّةُ اللَّهِ ﷿ عَلَى خَلْقِهِ، وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِالْبُنْيَانِ الَّذِي يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهُوَ نَاقِصُ الْكَمَالِ بِنُقْصَانِ بَعْضِهِ، فَأَكْمَلَ اللَّهُ بِهِ دِينَهُ، وَخَتَمَ بِهِ وَحْيَهُ. وَالْعَرَبُ تُمَثِّلُ مَا يُبَالِغُونَ فِيهِ مِنَ الْوَثَاقَةِ وَالْأَصَالَةِ وَعُقْدَةِ الْمَكَارِمِ وَالْمَفَاخِرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ بِالْبُنْيَانِ. قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف: ٤] . يَعْنِي: لَا يَزُولُ وَلَا يَتَخَلْخَلُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بَنَى السَّمَاءَ فَرَفَعَ سَمْكَهَا، وَهُوَ بِنَاءُ الْقُدْرَةِ لَا إِنَّ ثَمَّ شَيْئًا مِنْ آلَةِ الصَّنْعَةِ ⦗١١⦘. قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّيِّبِ يَذْكُرُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ: [البحر الطويل] فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا وَقَالَ آخَرُ: [البحر الطويل] أُولَئِكَ قَوْمٌ إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبُنَى ... وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا الْبُنَى: مَقْصُورٌ بِضَمِّ الْبَاءِ جَمْعُ بُنْيَةٍ، هَكَذَا قَالَ لَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ، يَعْنِي الزَّجَّاجَ، كَمَا تَقُولُ: لِحْيَةٌ وَلِحًى، وَحِلْيَةٌ وَحِلًى وَأَنْشَدَ ابْنُ دُرَيْدٍ: [البحر الطويل] تَبَوَّأْتُ بَيْتًا فِي الْمَكَارِمِ وَالْعُلَا ... رَفِيعَ الْبِنَا بَيْنَ الْمَجَرَّةِ وَالنَّجْمِ ⦗١٢⦘ وَقَالَ زِيَادُ بْنُ حَمَلٍ التَّمِيمِيُّ: [البحر البسيط] غَمْرُ النَّدَى لَا يَبِيتُ الْحَقُّ يَثْمُلُهُ ... إِلَّا غَدَا وَهْوَ سَامِي الطَّرْفِ مُبْتَسِمُ إِنَّ الْمَكَارِمَ يَبْنِيهَا وَيَعْمُرُهَا ... حَتَّى يَنَالَ أُمُورًا دُونَهُ قُحَمُ يَعْنِي لَا يَلِجُ عَلَيْهِ الْحَقُّ إِلَّا سُرَّ بِهِ، وَقُحَمٌ: تَكَلُّفٌ وَتَعَبٌ وَأَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ، عَنِ ابْنِ سَلَّامٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ - وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَلَيْسَ هُوَ الْوَلِيدُ - أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِهِ يَزِيدَ قَالَ جَرِيرٌ: [البحر الوافر] وَمَاذَا تَنْظُرُونَ بِهَا وَفِيكُمْ ... نُهُوضٌ بِالْعَظَائِمِ وَاعْتِلَاءُ وَلَوْ قَدْ بَايَعُوكَ وَلِيَّ عَهْدٍ ... لَقَامَ الْوَزْنُ وَاعْتَدَلَ الْبِنَاءُ ⦗١٣⦘ وَقَالَ آخَرُ مِنَ الْعَرَبِ يَمْدَحُ قَوْمًا: [البحر الوافر] هُمْ حَلُّوا مِنَ الشُّرَفِ الْمُعَلَّى ... وَمِنْ حَسَبِ الْعَشِيرَةِ حَيْثُ شَاءُوا بُنَاةُ مَكَارِمٍ وَأُسَاةُ كَلْمٍ ... دِمَاؤُهُمُ مِنَ الْكَلِبِ الشِّفَاءُ فَأَمَّا بَيْتُكُمْ - إِنْ عُدَّ - بَيْتٌ ... فَطَالَ السَّمْكُ وَاتَّسَعَ الْفِنَاءُ وَأَمَّا أُسُّهُ فَعَلَى قَدِيمٍ ... مِنَ الْعَادِيِّ إِنْ ذُكِرَ الْبِنَاءُ فَلَوْ أَنَّ السَّمَاءَ دَنَتْ لِمَجْدٍ ... وَمَكْرُمَةٍ دَنَتْ لَكُمُ السَّمَاءُ قَوْلُهُ: دِمَاؤُهُمُ مِنَ الْكَلِبِ الشِّفَاءُ: الْكَلِبُ دَاءٌ يَأْخُذُ الْكَلْبَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ الْكَلْبَ الْكَلِبَ - وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُهُ هَذَا الدَّاءُ - إِذَا عَضَّ تَلِفَ الْمَعْضُوضُ، وَإِذَا اسْتَشْفَى الْمَعْضُوضُ بِدَمِ الشَّرِيفِ بَرِئَ
١ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ مُطَيِّنٌ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ، ثنا يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ، وَالْمَعَافِرِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ شُفَيًّا الْأَصْبَحِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: «حَفِظْتُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَلْفَ مَثَلٍ»
٢ - حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ هَارُونُ بْنُ يُوسُفَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ح وَحَدَّثَنَا ⦗١٠⦘ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى عَبْدَانُ، ثنا عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ خَالِدٍ النُّمَيْرِيُّ، ثنا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ التَّمَّارِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا، فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ وَأَكْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُطِيفُونَ بِهِ، وَيَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، لَوْلَا مَوْضِعُ هَذِهِ اللَّبِنَةِ، أَلَا فَكُنْتُ تِلْكَ اللَّبِنَةَ" قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا مَثَلُ نُبُوَّتِهِ ﷺ، وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبِهِ تَتِمُّ حُجَّةُ اللَّهِ ﷿ عَلَى خَلْقِهِ، وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِالْبُنْيَانِ الَّذِي يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهُوَ نَاقِصُ الْكَمَالِ بِنُقْصَانِ بَعْضِهِ، فَأَكْمَلَ اللَّهُ بِهِ دِينَهُ، وَخَتَمَ بِهِ وَحْيَهُ. وَالْعَرَبُ تُمَثِّلُ مَا يُبَالِغُونَ فِيهِ مِنَ الْوَثَاقَةِ وَالْأَصَالَةِ وَعُقْدَةِ الْمَكَارِمِ وَالْمَفَاخِرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ بِالْبُنْيَانِ. قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف: ٤] . يَعْنِي: لَا يَزُولُ وَلَا يَتَخَلْخَلُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بَنَى السَّمَاءَ فَرَفَعَ سَمْكَهَا، وَهُوَ بِنَاءُ الْقُدْرَةِ لَا إِنَّ ثَمَّ شَيْئًا مِنْ آلَةِ الصَّنْعَةِ ⦗١١⦘. قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّيِّبِ يَذْكُرُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ: [البحر الطويل] فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا وَقَالَ آخَرُ: [البحر الطويل] أُولَئِكَ قَوْمٌ إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبُنَى ... وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا الْبُنَى: مَقْصُورٌ بِضَمِّ الْبَاءِ جَمْعُ بُنْيَةٍ، هَكَذَا قَالَ لَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ، يَعْنِي الزَّجَّاجَ، كَمَا تَقُولُ: لِحْيَةٌ وَلِحًى، وَحِلْيَةٌ وَحِلًى وَأَنْشَدَ ابْنُ دُرَيْدٍ: [البحر الطويل] تَبَوَّأْتُ بَيْتًا فِي الْمَكَارِمِ وَالْعُلَا ... رَفِيعَ الْبِنَا بَيْنَ الْمَجَرَّةِ وَالنَّجْمِ ⦗١٢⦘ وَقَالَ زِيَادُ بْنُ حَمَلٍ التَّمِيمِيُّ: [البحر البسيط] غَمْرُ النَّدَى لَا يَبِيتُ الْحَقُّ يَثْمُلُهُ ... إِلَّا غَدَا وَهْوَ سَامِي الطَّرْفِ مُبْتَسِمُ إِنَّ الْمَكَارِمَ يَبْنِيهَا وَيَعْمُرُهَا ... حَتَّى يَنَالَ أُمُورًا دُونَهُ قُحَمُ يَعْنِي لَا يَلِجُ عَلَيْهِ الْحَقُّ إِلَّا سُرَّ بِهِ، وَقُحَمٌ: تَكَلُّفٌ وَتَعَبٌ وَأَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ، عَنِ ابْنِ سَلَّامٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ - وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَلَيْسَ هُوَ الْوَلِيدُ - أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِهِ يَزِيدَ قَالَ جَرِيرٌ: [البحر الوافر] وَمَاذَا تَنْظُرُونَ بِهَا وَفِيكُمْ ... نُهُوضٌ بِالْعَظَائِمِ وَاعْتِلَاءُ وَلَوْ قَدْ بَايَعُوكَ وَلِيَّ عَهْدٍ ... لَقَامَ الْوَزْنُ وَاعْتَدَلَ الْبِنَاءُ ⦗١٣⦘ وَقَالَ آخَرُ مِنَ الْعَرَبِ يَمْدَحُ قَوْمًا: [البحر الوافر] هُمْ حَلُّوا مِنَ الشُّرَفِ الْمُعَلَّى ... وَمِنْ حَسَبِ الْعَشِيرَةِ حَيْثُ شَاءُوا بُنَاةُ مَكَارِمٍ وَأُسَاةُ كَلْمٍ ... دِمَاؤُهُمُ مِنَ الْكَلِبِ الشِّفَاءُ فَأَمَّا بَيْتُكُمْ - إِنْ عُدَّ - بَيْتٌ ... فَطَالَ السَّمْكُ وَاتَّسَعَ الْفِنَاءُ وَأَمَّا أُسُّهُ فَعَلَى قَدِيمٍ ... مِنَ الْعَادِيِّ إِنْ ذُكِرَ الْبِنَاءُ فَلَوْ أَنَّ السَّمَاءَ دَنَتْ لِمَجْدٍ ... وَمَكْرُمَةٍ دَنَتْ لَكُمُ السَّمَاءُ قَوْلُهُ: دِمَاؤُهُمُ مِنَ الْكَلِبِ الشِّفَاءُ: الْكَلِبُ دَاءٌ يَأْخُذُ الْكَلْبَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ الْكَلْبَ الْكَلِبَ - وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُهُ هَذَا الدَّاءُ - إِذَا عَضَّ تَلِفَ الْمَعْضُوضُ، وَإِذَا اسْتَشْفَى الْمَعْضُوضُ بِدَمِ الشَّرِيفِ بَرِئَ
1 / 9
٣ - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ ⦗١٤⦘ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورٌ فِيهِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى تِلْكَ الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ وَلَا تَعْوَجُّوا، وَمِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يُنَادِي، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، فَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّتُورُ حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي الْقُرْآنُ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقٍ وَاعِظُ اللَّهِ" قَالَ لَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ: الصِّرَاطُ: الطَّرِيقُ، وَالسُّوَرُ: الْحَائِطُ، يُقَالُ: سُرْتُ الْحَائِطَ وَتَسَوَّرْتُهُ إِذَا صِرْتُ فِي أَعْلَاهُ، وَجَنْبَتَا الصِّرَاطِ: نَاحِيَتَاهُ، وَالْجَمْعُ جَنَبَاتٍ، وَالْحَدُّ: الْمِقْدَارُ، وَالتَّنَاهِي الْمَمْنُوعُ مِنْ تَجَاوُزِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: ٢٢٩] وَأَصْلُ الْحَدِّ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ ضَرْبُ الْحَدِّ، وَهُوَ عَدَدٌ وَمِقْدَارٌ مَنَعَ اللَّهُ مِنْ تُجَاوُزِهِ، وَحُدُودُ الدَّارِ هُوَ الْمِقْدَارُ ⦗١٥⦘ وَالتَّنَاهِي الَّذِي لَا يَتَجَاوَزُهَا صَاحِبُ الدَّارِ، وَيُسَمَّى الْبَوَّابُ حَدَّادًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الدُّخُولِ، وَتَقُولُ: دُونَ ذَلِكَ الْأَمْرِ حَدَدٌ أَيْ مَانِعٌ قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنُ نُفَيْلٍ:
[البحر البسيط]
سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَانًا نَعُوذُ بِهِ ... فَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجُمُدُ
لَا تعْبُدُنَّ إِلَهًا غَيْرَ خَالِقِكُمْ ... وَإِنْ دُعِيتُمْ فَقُولُوا دُونَهُ حَدَدُ
وَهَذَا مَثَلٌ فِي وُضُوحِ الْحَقِّ وَظُهُورِ مَعَالِمِ الْإِسْلَامِ لِمَنْ أَرَادَ قَصْدَهَا، وَعَدَلَ عَنْ طَرِيقِ الشُّبَهِ وَالرِّيَبِ مُفَارِقًا لَهَا، وَبَيَانُهُ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَتَرْنَ مِنْهُ، وَأَعْرَضْنَ عَنْهُ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَلِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ» قَالَ لَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ: الْحِمَى: الْمَكَانُ الْمُعْشِبُ الَّذِي يَمْنَعُ مَالِكُهُ مِنْ تَطَرُّقِهِ وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَتَرْنَ مِنْهُ وَأَعْرَضْنَ عَنْهُ: تَمْثِيلٌ، وَمَعْنَاهُ تَرْكُ الْإِنْسَانِ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ، وَجَعَلَ الْفِعْلَ لِلشَّبَهِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، وَمِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر]
وَفَارَقَنِي قَرِينُ السَّوْءِ لَمَّا ... رَأَيْتُ الرُّشْدَ فَارَقْتُ الْقَرِينَا
أَرَادَ جَهْلَ الشَّبَابِ، فَأَوْجَبَ لَهُ الْفِعْلَ فِي حَالٍ وَلِنَفْسِهِ فِي حَالٍ، وَالْجَهْلُ لَا فِعْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْفِعْلُ لِلْجَاهِلِ
1 / 13
٤ - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيُّ، ثنا عَمِّي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيُّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ الْمَكِّيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكُ» تَقُولُ: رَابَنِي الْأَمْرُ يَرِيبُنِي: إِذَا أَدْخَلَ عَلَيْكَ شَكًّا وَسَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ السَّرِيِّ يَحْكِي عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: رَابَنِي وَأَرَابَنِي بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَأَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَطِيَّةَ السَّامِيُّ، عَنِ الزِّيَادِيِّ:
[البحر الرجز]
يَا قَوْمُ مَا لِي وَأَبَا ذُؤَيْبِ ... كُنْتُ إِذَا أَتَوْتُهُ مِنْ غَيْبِ
يَشُمُّ عِطْفِي وَيَبُزُّ ثَوْبِي ... كَأَنَّمَا أَرَبْتُهُ بِرَيْبِ
قَالَ الزِّيَادِيُّ: أَتَوْتُهُ بِمَعْنَى أَتَيْتُهُ، وَرُبْتُهُ وَأَرَبْتُهُ جَمِيعًا، وَرُبْتُهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ ⦗١٧⦘، وَيُقَالُ: أَرَابَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ صَاحِبَ رِيبَةٍ، وَالرِّيبُ أَيْضًا حَادِثَةٌ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ، وَالرَّيْبُ الشَّكُّ وَأَنْشَدَنَا وَكِيعٌ:
[البحر الكامل]
دَعْ مَا يَرِيبُكَ وَانْتَقِلْ ... عَنْهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكْ
وَاقْنَعْ بِمَا رَزَقَ الْإِلَـ ... ـهُ فَلَيْسَ تَعْدُو مَا يُصِيبُكْ
وَلَيَأْتِيَنَّكَ أَيْنَ كُنْـ ... ـتَ مُوَقَّرًا مِنْهُ نَصِيبُكْ
1 / 16
٥ - حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ يُوسُفَ، ثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، ثنا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " بَيْنَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ أَتَانِي مَلَكَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ لَهُ مَثَلًا فَاضْرِبْ لَهُ مَثَلًا، فَقَالَ: سَيِّدٌ بَنَى دَارًا، وَأَعَدَّ مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ مُنَادِيًا، فَالسَّيُّدُ اللَّهُ، وَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالْمَأْدُبَةُ الْإِسْلَامَ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ ﷺ " وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَا، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ نَائِمًا فَأَتَاهُ مَلَكَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْعَيْنُ نَائِمَةٌ، وَقَالَ الْآخَرُ ⦗١٨⦘: إِنَّ لَهُ مَثَلًا، وَذَكَرَ نَحْوًا مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ. قَالَ لَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ: الْمَأْدُبَةُ: الْوَلِيمَةُ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ» وَيُرْوَى مَأْدَبَةُ اللَّهِ، بِفَتْحِ الدَّالِ. قَالَ لِي أَبُو مُوسَى الْحَامِضُ: مَنْ رَوَى هَذَا بِضَمِّ الدَّالِ فَإِنَّمَا أَرَادَ الْوَلِيمَةَ، وَمَنْ رَوَاهَا بِفَتْحِ الدَّالِ أَرَادَ أَدَبَ اللَّهِ ﷿ الَّذِي أَدَّبَ بِهِ عِبَادَهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَوْلُهُ: «الْقَلْبُ يَقْظَانُ» تَمْثِيلٌ، وَيُرَادُ بِهِ حَيَاةُ الْقَلْبِ وَصِحَّةُ خَوَاطِرِهِ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ يَقِظٌ وَيَقُظٌ إِذَا كَانَ حَدِيدَ الْقَلْبِ ذَكِيَّهُ، وَهَذَا مَثَلٌ لَدَعْوَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَالْفَوْزِ بِالِاسْتِجَابَةِ لَهَا، وَالْوُصُولِ إِلَى الْجَنَّةِ بِهَا: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: ٢٥]
1 / 17
٦ - حَدَّثَنَا أَبُو شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَابَلْتِيُّ، ثنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَأُوتِيتُ الْحِكْمَةَ، وَضُرِبَ لِي مِنَ ⦗١٩⦘ الْأَمْثَالِ مِثْلُ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي مَلَكَانِ فَقَامَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَقَامَ الْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي: اضْرِبْ مَثَلًا، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ: بَلِ اضْرِبْ مَثَلًا، وَأَنَا أُفَسِّرُهُ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي وَأَهْوَى إِلَيَّ: لِتَنَمْ عَيْنُكَ، وَلْتَسْمَعْ أُذُنُكَ، وَلْيَعِ قَلْبُكَ، قَالَ: فَكُنْتُ كَذَلِكَ، أَمَّا الْأُذُنُ فَتَسْمَعُ، وَأَمَّا الْقَلْبُ فَيَعِي، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَتَنَامُ، قَالَ: فَضَرَبَ مَثَلًا فَقَالَ: بِرْكَةٌ فِيهَا شَجَرَةٌ نَابِتَةٌ، وَفِي الشَّجَرَةِ غُصْنٌ خَارِجٌ، فَجَاءَ ضَارِبٌ فَضَرَبَ الشَّجَرَةَ، فَوَقَعَ الْغُصْنُ وَوَقَعَ مَعَهُ وَرَقٌ كَثِيرٌ، كُلُّ ذَلِكَ فِي الْبِرْكَةِ لَمْ يَعْدُهَا، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ فَوَقَعَ وَرَقٌ كَثِيرٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الْبِرْكَةِ لَمْ يَعْدُهَا، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَوَقَعَ وَرَقٌ كَثِيرٌ، لَا أَدْرِي مَا وَقَعَ فِيهَا أَكْثَرَ أَوْ مَا خَرَجَ مِنْهَا، قَالَ: فَفَسَّرَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ: أَمَا الْبِرْكَةُ فَهِيَ الْجَنَّةُ، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ فَهِيَ الْأُمَّةُ، وَأَمَّا الْغُصْنُ فَهُوَ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَمَّا الضَّارِبُ فَمَلَكُ الْمَوْتِ، ضَرَبَ الضَّرْبَةَ الْأُولَى فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ فَوَقَعَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَهْلُ طَبَقَتِهِ، وَضَرَبَ الثَّانِيَةَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي فَوَقَعَ كُلُّ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ فَلَا أَدْرِي مَا وَقَعَ فِيهَا أَكْثَرُ أَوْ مَا خَرَجَ مِنْهَا "؟
1 / 18
٧ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ سَمَاعَةَ الْحَضْرَمِيُّ، ثنا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، ثنا بَشِيرٌ، يَعْنِي ابْنَ الْمُهَاجِرِ الْغَنَوِيَّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَادَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ مَثَلُ قَوْمٍ خَافُوا عَدُوًّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ فَبَعَثُوا رَجُلًا يَتَرَبَّأُ لَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَبْصَرَ الْعَدُوَّ فَأَقْبَلَ لِيُنْذِرَ قَوْمَهُ فَخَشِيَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يَنْذِرَ قَوْمَهُ فَأَهْوَى بِثَوْبِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ أُتِيتُمْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَتَرَبَّأُ لَهُمْ: هُوَ أَنْ يَعْلُوَ شَاهِقًا فَيَرْقُبَ الْعَدُوَّ لِيُنْذِرَ بِهِ، وَاسْمُهُ الرَّبِيئَةُ عَلَى مِثَالِ ⦗٢٠⦘ فَعِيلَةُ، مَهْمُوزٌ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الدَّيْدَبَانُ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْيَشْكُرِيُّ:
[البحر الرجز]
أَمَّا النَّهَارُ فَرَابِي ... قَوْمِي بِمَرْقُبَةٍ يَفَاعِ
وَاللَّيْلُ أَبْطَنَ ذَا خَضَا ... خِضَ وَالْوُعُورِ مِنَ الْبِقَاعِ
تَرِدُ السِّبَاعُ مَعِي فَأُلْـ ... ـفَى كَالْمُدِلِّ مِنَ السِّبَاعِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: إِنِّي لَأَرْبَأُ بِكَ عَنْ كَذَا، أَيْ: أَرْفَعُكَ عَنْهُ، وَتَقُولُ: مَا رَأَيْتُهُ حَتَّى أَرْبَأَ عَلَيَّ، أَيْ: أَشْرَفَ عَلَيَّ، وَهَذَا مَثَلٌ فِي السَّبْقِ إِلَى اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ، وَالْفَوْزِ بِتَصْدِيقِهِ قَبْلَ فَقْدِهِ، وَأَنَّهُ آخِرُ مَنْ أَنْذَرَ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يُنْتَظَرُ، وَيَتَضَمَّنُ مَعْنَى دُنُوِّ السَّاعَةِ وَقُرْبِهَا، كَمَا قَالَ: «بُعِثْتُ وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» . وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ وَقَالَ اللَّهَ ﷿: ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى، أَزِفَتِ الْآزِفَةُ﴾ [النجم: ٥٧] . يَعْنِي: دَنَتِ الْقِيَامَةُ وَهَذَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي تَقْرِيبِ الْكَائِنِ الَّذِي هُوَ لَا مَحَالَةَ وَاقِعٌ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ ﵁:
[البحر الرجز]
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٍ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
أَرَادَ بِدُنُوِّ الْمَوْتِ وُقُوعَهُ لَا مَحَالَةَ. وَقَالَ كَعْبٌ الْغَنَوِيُّ:
[البحر الطويل]
لَعَمْرُكُمَا إِنَّ الْبَعِيدَ الَّذِي مَضَى ... وَإِنَّ الَّذِي يَأْتِي غَدًا لَقَرِيبُ
⦗٢١⦘
فَسَمَّى مَا قُدِّرَ كَوْنُهُ وَيُنْتَظَرُ وُقُوعُهُ وَإِنْ بَعُدَ وَقْتُهُ بِاسْمِ غَدٍ، وَهُوَ ثَانِيَ يَوْمِكَ، لِأَنَّ مُرُورَ الْأَوْقَاتِ يُدْنِيهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾ [القمر: ٢٦] . وَهَذَا وَشِبْهُهُ مُتَصَرِّفٌ فِي أَكْثَرِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلِهَذَا أَخْرَجُوا الْمُسْتَقْبَلَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّذِي وَقَعَ الْوَعْدُ بِهِ مَخْرَجَ الْمَاضِي الَّذِي قَدْ تَصَرَّمَ وَقْتُهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: ٤٤]، ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [ق: ٢١] . وَسَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ ﷿: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: ١] أَنَّ مَعْنَاهُ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَعْدًا، فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ وُقُوعًا وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا بَالَغُوا فِي شِدَّةِ السَّعْي وَسُرْعَةِ الْحَرَكَةِ: جَاءَنَا زَيْدٌ أَسْرَعَ مِنَ الرِّيحِ، وَأَسْرَعَ مِنَ الْبَرْقِ، وَرَأَيْنَا فُلَانًا يَطِيرُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُبَارِي الرِّيحَ وَالْبَرْقَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الطَّيَرَانِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْخِفَّةُ وَسُرْعَةُ الْحَرَكَةِ. وَيُقَالُ فِي أَمْثَالِهِمْ: جَاءَ فُلَانٌ قَبْلَ عَيْرٍ وَمَا جَرَى، يُرِيدُونَ السُّرْعَةَ، أَيْ قَبْلَ لَحْظَةِ الْعَيْنِ، وَالْعَيْرُ بِالرَّاءِ: إِنْسَانُ الْعَيْنِ، وَفُسِّرَ بَيْتُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
زَعَمُوا أَنَّ كُلَّ مِنْ ضَرَبَ الْعَيْـ ... ـرَ مُوَالٍ لَنَا وَأَنَّا الْوَلَاءُ
⦗٢٢⦘
أَيْ كُلُّ مَنْ ضَرَبَ بِجَفْنٍ عَلَى عَيْرٍ، قَالَ: وَالْعَيْرُ إِنْسَانُ الْعَيْنِ وَهَذَا تَفْسِيرُ بَعْضِ الرُّوَاةِ مِنَ الْقُدَمَاءِ، وَهُوَ غَرِيبٌ، فَهَذِهِ لُغَاتُ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا خَاطَبَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِلُغَتِهِ وَلُغَتِهِمْ، فَمَنْ جَهِلَ لُغَاتِ الْمُخَاطَبِينَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ جُمْلَةِ النَّظَّارِينَ
1 / 19
٨ - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ الْمُقَوِّمُ، ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، ثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ نَذِيرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ ثُمَّ يَقُولُ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» . وَيَقْرِنُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ السَّبَّابَةِ وَالْوسْطَى "
٩ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ رَوَاحَةَ، ثنا أَبُو كُرَيْبٍ، ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ ⦗٢٣⦘ عُبَيْدَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بُعِثْتُ فِي نَفَسِ السَّاعَةِ، سَبَقْتُهَا كَمَا سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ» وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ
٩ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ رَوَاحَةَ، ثنا أَبُو كُرَيْبٍ، ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ ⦗٢٣⦘ عُبَيْدَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بُعِثْتُ فِي نَفَسِ السَّاعَةِ، سَبَقْتُهَا كَمَا سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ» وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ
1 / 22
١٠ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْدَانَ، وَيُعْرَفُ بِالثَّغْرِيِّ، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، ثنا أَبُو أُسَامَةَ، ثنا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: يَا قَوْمِ، إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَدْلَجُوا، فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ ⦗٢٤⦘ وَاجْتَاحَهُمْ، كَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ" قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ الَّذِي قَدْ ظَهَرَ صِدْقُهُ وَلَا أَدْرِي عَمَّنْ حَكَاهُ وَإِلَى مَنْ أَسْنَدَهُ، إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ السَّرِيِّ يَقُولُ: عَرِيَ الْأَمْرُ إِذَا ظَهَرَ، وَيُقَالُ: الْحَقُّ عَارٍ أَيْ ظَاهِرٌ مُشْرِقٌ مُشْرِفٌ، كَمَا قِيلَ: الْحَقُّ أَبْلَجُ مِنْ بُلْجَةِ الصُّبْحِ. قَالَ فِنْدٌ الزِّمَّانِيُّ:
[البحر الهزج]
فَلَمَّا صَرَّحَ الشَّرُّ ... فَأَمْسَى وَهُوَ عُرْيَانُ
مَشَيْنَا مِشْيَةَ اللَّيْثِ ... غَدَا وَاللَّيْثُ غَضْبَانُ
وَقَالَ الْخَطِيمُ:
[البحر الطويل]
وَقَالَ وَقَدْ مَالَتْ بِهِمْ نَشْوَةُ الْكَرَى ... نُعَاسًا وَمَنْ يَعْلُقُ سَرَى اللَّيْلِ يَكْسُلُ
انِخْ نُعْطِ أَنْضَاءَ النُّعَاسِ دَوَاءَهَا ... قَلِيلًا وَرَفِّهْ عَنْ قَلَائِصَ ذُبَّلِ
فَقُلْتُ لَهُ كَيْفَ الْإِنَاخَةُ بَعْدَ مَا ... حَدَا اللَّيْلُ عُرْيَانُ الطَّرِيقَةِ مُنْجَلِ
⦗٢٥⦘
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ شُيُوخِنَا عَنِ الْمَازِنِيِّ، عَنِ الْجَوَادَانِيِّ قَالَ: أَنْشَدَنِي بَشَّارٌ:
[البحر الوافر]
أَسَرْتُ وَكَمْ تَقَدَّمَ مِنْ أَسِيرٍ ... يَزِينُ بِوَجْهِهِ عُقْدَ الْإِسَارِ
كَبِشْرٍ أَوْ كَبِسْطَامَ بْنِ قَيْسٍ ... أُصِيبَا ثُمَّ مَا دَنِسَا بِعَارِ
وَكَيْفَ يَنَالُنِي مَنْ لَمْ يَنَلْهُمْ ... أَعَزُّ بِطَانَةٍ فِي الْحَقِّ عَارِ
وَالطَّائِفَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قِطْعَةٌ مِنْهُ، تَقُولُ: طَائِفَةٌ مِنَ الْقَوْمِ، وَطَائِفَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ [المزمل: ٢٠] وَأَدْنَى مَا يَقَعُ اسْمُ الطَّائِفَةِ وَاحِدٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ لِلشَّافِعِيِّ ﵀ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٢] وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ، وَالنَّذِيرُ بِمَعْنَى الْمُنْذِرِ، كَمَا قَالَ: سَمِيعٌ بِمَعْنَى مُسْمِعٍ، وَأَلِيمٌ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ، وَوَجِيعٌ بِمَعْنَى مُوجِعٌ ⦗٢٦⦘، قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ:
[البحر الوافر]
أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
يُرِيدُ الدَّاعِيَ الْمُسْمِعَ. وَقَوْلُهُ: أَدْلَجُوا، الْإِدْلَاجُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، تَقُولُ مِنْ ذَلِكَ: أَدْلَجَ يُدْلِجُ إِدْلَاجًا، وَالِادِّلَاجُ - بِتَشْدِيدِ الدَّالِ - مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، تَقُولُ مِنْهُ: ادَّلَجَ يَدَّلِجُ ادِّلَاجًا وَاسْمُهُ الدُّلْجَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ
1 / 23
١١ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى، ثنا أَبُو الْمُغَلِّسِ النُّمَيْرِيُّ، ثنا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ التَّمَّارِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَالذُّبَابُ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا» قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: اسْتَوْقَدَ بِمَعْنَى أَوَقَدَ كَمَا قَالُوا: اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ. قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ [الأنفال: ٢٤] وَقَالَ: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: ١٧]
⦗٢٧⦘. وَقَالَ الْغَنَوِيُّ:
[البحر الطويل]
وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
وَالْحُجَزُ وَاحِدَتُهَا حُجَزَةٌ، تَقُولُ: حُجَزَةٌ وَحُجَزٌ وَحُجَزَاتٍ، وَهِيَ مَعْقِدُ الْإِزَارِ وَحَيْثُ يُثْنَى طَرَفُهُ قَالَ النَّابِغَةُ:
[البحر الطويل]
رِقَاقُ النِّعَالِ طَيِّبٌ حُجَزَاتُهُمْ ... يُحَيُّونَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ
وَهَذَا تَمْثِيلٌ مِنْ أَوْجَزِ الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ وَأَشَدِّهِ اخْتِصَارًا تَقُولُ: أَخَذْتُ بِحُجَزَتِهِ عَنْ كَذَا إِذَا صَدَدْتَهُ عَنْهُ وَمَنَعْتَهُ مِنْهُ، وَتَقُولُ: أَخَذْتُ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى كَذَا إِذَا قُدْتَهُ إِلَيْهِ وَقَهَرْتَهُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ [هود: ٥٦] . أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا، مَالِكٌ لَهَا. وَالنَّاصِيَةُ تَنَاهِي شَعْرِ الرَّأْسِ مِمَّا يَلِي الْوَجْهَ وَقَالَ: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ﴾ [الرحمن: ٤١] . أَيْ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ قَهْرًا. وَيَقُولُ الْقَائِلُ: نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، فِي مَعْنَى الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ ⦗٢٨⦘. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
[البحر الطويل]
عَشِيَّةَ أَعْطَتْنَا عُمَانُ أُمُورَهَا ... وَقُدْنَا مَعَدًّا عَنْوَةً بِالْخَزَائِمِ
يُرِيدُ أَنَّهُمْ غَلَبُوهُمْ وَسَاقُوهُمْ قَهْرًا. وَقَوْلُهُ: «أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ» . يَقُولُ: أُحَذِّرُكُمُوهَا، وَأَصُدُّكُمْ عَنْهَا، وَأُرَغِّبُكُمْ فِي الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَأَنْتُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ لَا تَشْعُرُونَ، كَمَا يَقْتَحِمُ الْفَرَاشُ النَّارَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، لِمَيْلِكُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا، وَإِيثَارِكُمْ لَهَا عَلَى ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا عِنْدَهُ، الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، فَهَذِهِ مَوْعِظَةٌ لِبَعْضِ مَنْ أَجَابُوا الدَّعْوَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ
1 / 26
١٢ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْدَانَ، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، ثنا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ الْأَرْضَ، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَرَعَوْا وَسَقَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً أُخْرَى مِنْهَا الْمَاءُ، وَهِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تَنْبُتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْغَيْثُ اسْمٌ عَامٌّ لِلْمَطَرِ يُغِيثُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ، وَيُصِيبُ بِهِ مَوَاقِعَ النَّفْعِ لَهُمْ، تَقُولُ مِنْهُ: غَيَثَتِ الْأَرْضُ فَهِيَ مُغِيثَةٌ ⦗٢٩⦘، وَالْكَلَأُ: الْحَشِيشُ، قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ الْعَيْنِ: هُوَ اسْمٌ لِرَطْبِهِ وَيَابِسِهِ. قَالَ: وَالْعُشْبُ لَا يَكُونُ إِلَّا رَطْبًا وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ: الْكَلَأُ كُلُّهُ مَا دَامَ رَطْبًا عُشْبُهُ وَبَقْلُهُ، وَهُوَ مَهْمُوزٌ، وَالْجَمْعُ الْأَكْلَاءُ مَمْدُودٌ، يُقَالُ: أَكْلَأَتِ الْأَرْضُ فَهِيَ مُكْلِئَةٌ، وَأَكْلَأَتِ الْأَرْضُ وَأَعْشَبَتْ، وَأَكْلَأَ الْمَالُ وَأَعْشَبَ، وَالنَّاسُ مُكْلِئُونَ وَمُعْشِبُونَ، وَقَدْ بَدَأَ الْإِكْلَاءُ وَالْإِعْشَابُ وَالْإِبْقَالُ، فَأَمَّا ذَكَارُ الْكَلَأِ فَعُشْبٌ وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنْهُ وَعَظُمَ، وَالْبَقْلُ مَا لَانَ مِنْهُ وَدَقَّ وَهَذَا مَثَلٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي إِبْلَاغِهِ عَنِ اللَّهِ ﷿، وَدُعَائِهِ إِلَى سَبِيلِهِ، وَأَنَّهُ بُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ لِيُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَيَهْدِيَهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِالْغَيْثِ الَّذِي يَنْشُرُ اللَّهُ بِهِ رَحْمَتَهُ فِي الْأَرْضِ وَيُحْيِي بِهِ الْأَنْعَامَ وَالْحَرْثَ، وَالَّذِينَ اسْتَمَعُوا قَوْلَهُ وَشَاهَدُوا أَمْرَهُ فِي اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ بِبِقَاعِ الْأَرْضِ الَّتِي يَخْتَلِفُ تُرْبُهَا وَأَمَاكِنُهَا، فَمِنْهَا ذَاتُ الرِّيَاضِ الْمُعْشِبَةِ الْكَثِيفَةِ الَّتِي يَكْثُرُ خَيْرُهَا وَيَعُمُّ نَفْعُهَا، وَمِنْهَا الْأَمَاكِنُ ذَاتُ الْغِيَاضِ وَالْغُدْرَانِ وَالنُّقْرِ وَالْقِلَاتِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَسْتَنْقِعُ فِيهَا الْمَاءُ فَيَرِدُ إِلَيْهَا النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ، وَمِنْهَا مَا لَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْمَطَرِ إِلَّا بِمُرُورِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَثَلٌ لِمَنْ فَقِهَ عَنِ اللَّهِ ﷿ وَتَفَقَّهَ لِمَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَعَمِلَ، وَمَثَلٌ لِلْحَامِلِ ⦗٣٠⦘ عَلِمَهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَوْعَى مِنْهُ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» وَمَثَلٌ لِلسَّامِعِ الْمُعْرِضِ الْمَحْرُومِ. وَالْأَجَادِبُ - فِيمَا أَحْسَبُ - جَمْعُ أَجْدَابَ، أَوْ يَكُونُ جَمْعًا لِأَجْدَبَ، وَهَذَا - فِيمَا أَحْسَبُ وَلَا أُحَقِّقُ - سَمِعْتُ الزَّجَّاجَ يَقُولُ: جَدَبَتِ الْأَرْضُ وَأَجْدَبَتْ إِذَا لَمْ تُنْبِتْ شَيْئًا وَسَمِعْتُ ابْنَ دُرَيْدٍ يَقُولُ: أَرْضٌ جَدْبَةٌ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةُ النَّبَاتِ
1 / 28
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ السِّلَفِيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ ﵀: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُشَرَّفِ الْمِصْرِيُّ، ثنا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الدَّقَّاقُ بِمِصْرَ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طَالِبٍ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنِي الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَلَّادٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ، بِقِرَاءَتِهِ عَلَيَّ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
١٣ - حَدَّثَنَا أَبِي فِي عِدَادٍ مِنْهُمُ الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَأَبُو يَحْيَى السَّاجِيُّ، وَيَعْقُوبُ بْنُ مُجَاهِدٍ، وَابْنُ الْبِرْتِيِّ، وَغَيْرُهُمْ قَالُوا: ثنا أَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانِيُّ، ثنا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي ⦗٣٤⦘ هُرَيْرَةَ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ الطَّيَالِسِيُّ، ثنا مُؤَمَّلُ بْنُ إِهَابٍ، ثنا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَاتَّفَقَتْ أَلْفَاظُهُمْ فِي ضَمِّ الْمِيمِ مِنْ قَوْلِهِ «مُهْدَاةٌ» إِلَّا ابْنَ الْبِرْتِيِّ قَالَ: «مِهْدَاةٌ» بِكَسْرِ الْمِيمِ، مِنَ الْهِدَايَةِ، وَكَانَ ضَابِطًا فِيهِمَا مُتَصَرِّفًا فِي الْفِقْهِ وَاللُّغَةِ، وَالَّذِي قَالَهُ أَجْوَدُ مِنَ الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّهُ بُعِثَ ﷺ هَادِيًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] . وَكَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ [النحل: ٤٤] . وَ﴿لِتَخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم: ١] . وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَمَنْ رَوَاهُ بِضَمِّ الْمِيمِ إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ ﷿ أَهْدَاهُ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ قَرِيبٌ
1 / 33
١٤ - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُلَاعِبٍ، ثنا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ ⦗٣٥⦘ حُمَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنِّي مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَتَقَاحَمُونَ فِيهَا تَقَاحُمَ الْفَرَاشِ وَالْجَنَادِبِ، وَيُوشِكُ أَنْ أُرْسِلَ حُجَزَكُمْ، وَأَنَا فَرَطٌ لَكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَتَرِدُونَ عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا - يَقُولُ جَمِيعًا - فَأَعْرِفُكُمْ بِأَسْمَائِكُمْ وَبِسِيمَاكُمْ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الْغَرِيبَةَ مِنَ الْإِبِلِ فِي إِبِلِهِ، فَيُذْهَبُ بِكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، وَأُنَاشِدُ فِيكُمْ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ الْقَهْقَرَى بَعْدَكَ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ فَرَسًا لَهُ حَمْحَمَةٌ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ قِشْعًا مِنْ أَدَمٍ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ" قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: قَوْلُهُ «آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ» الْحُجَزَةُ: مَشَدُّ الْإِزَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَقَوْلُهُ «يُوشِكُ أَنْ أُرْسِلَ حُجَزَكُمْ» . يَقُولُ: يُوشِكُ أَنْ أُفَارِقَكُمْ وَيَحُولَ الْمَوْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَيُوشِكُ فِي مَعْنَى يُسْرِعُ، وَهُوَ بِكَسْرِ الشَّينِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر المنسرح]
يُوشِكُ مَنْ فَرَّ مِنْ مَنِيَّتِهِ ... فِي بَعْضِ غِرَّاتِهِ يُوَافِقُهَا
⦗٣٦⦘
وَقَوْلُهُ: «أَنَا فَرَطٌ لَكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» . يَقُولُ: أَتَقَدَّمُكُمْ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهِ، وَفَارِطُ الْقَوْمِ الَّذِي يَتَقَدَّمُهُمْ إِلَى الْمَاءِ، وَفِعْلُهُ: فَرَطَ يَفْرُطُ فَرَطًا، وَقَوْلُهُ: «فَتَرِدُونَ عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا» . يَقُولُ: جَمِيعًا وَمُتَفَرِّقِينَ «فَأَعْرِفُكُمْ بِسِيمَاكُمْ» . السِّيمَا: الْعَلَامَةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْخَيْرُ وَالشَّرُّ مِنَ الْإِنْسَانِ. قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: ٢٩] . وَقَالَ: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ [الرحمن: ٤١] . وَالسِّيمَاءُ مِثْلُهُ مَمْدُودٌ وَأَنْشَدَنَا أَبُو خَلِيفَةَ قَالَ: أَنْشَدَنَا التَّوَّزِيُّ:
[البحر الطويل]
غُلَامٌ رَمَاهُ اللَّهُ بِالْحُسْنِ يَافِعًا ... لَهُ سِيمِيَاءُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرِ
وَقَوْلُهُ: «فَيُذْهَبُ بِكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ» . يَعْنِي طَرِيقَ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَوْلُهُ: «أُنَاشِدُ فِيكُمْ رَبَّ الْعَالَمِينَ» . يَقُولُ: أَطْلُبُ إِلَيْهِ وَأَسْأَلُهُ الْعَفْوَ عَنْكُمْ وَالتَّجَاوُزَ عَنْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ الْقَهْقَرَى بَعْدَكَ، مَعْنَاهُ: كَانُوا يُخَالِفُونَ أَمْرَكَ وَيَسْلُكُونَ غَيْرَ سَبِيلِكَ، وَالْقَهْقَرَى: أَنْ يَمْشِيَ الْإِنْسَانُ مُوَلِّيًا ⦗٣٧⦘، وَقَوْلُهُ: «يَحْمِلُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ» . الثُّغَاءُ: صَوْتُ الشَّاةِ، تَقُولُ: ثَغَتِ الشَّاةُ تَثْغُو ثُغَاءً، وَرَغَا الْبَعِيرُ يَرْغُو رُغَاءً. وَالْحَمْحَمَةُ: صَوْتُ الْفَرَسِ، وَهُوَ دُونَ الصَّهِيلِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ صَوْتُ الْفَرَسِ لِلشَّعِيرِ. وَالْقِشْعُ مِنْ أَدَمٍ، وَرُبَّمَا اتُّخِذَ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ يَحْرِزُ فِيهِ أَهْلُ الْبَدْوِ أَمْتِعَتَهُمْ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِزَانَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ. قَالَ مُتَمِّمٌ:
[البحر الطويل]
وَلَا بَرَمًا تُهْدِي النِّسَاءُ لِعِرْسِهِ ... إِذَا الْقَشْعُ مِنْ حَسِّ الشِّتَاءِ تَقَعْقَعَا
يَقُولُ: إِنَّهُ يَخِفُّ فِي الشِّتَاءِ لِلْمَحْلِ، وَهَذَا فِي الْغُلُولِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ [آل عمران: ١٦١] . وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ تَذْكِيرًا وَتَخْوِيفًا وَمَوْعِظَةً يَقَعُ خِطَابُهَا عَامًّا وَمَعْنَاهُ الْخُصُوصُ، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ فِي الْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ، كَقَوْلِ الْوَاعِظِ: كَأَنَّ الْمَوْتَ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا كُتِبَ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ، وَقَدْ نَسِينَا كُلَّ وَاعِظَةٍ، وَأَمِنَّا كُلَّ جَائِحَةٍ. وَهَذَا مِنْ كَلَامٍ يُرْوَى عَنْهُ ﷺ فِي خُطْبَةٍ لَهُ مَعْرُوفَةٍ، وَهُوَ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ جُنُوبَهُمْ ⦗٣٨⦘ تَتَجَافَى عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا، وَأَنَّ قُلُوبَهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، مِنْ هَذَا الْخِطَابِ خَارِجُونَ. وَقَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [يونس: ٢٣] . وَالُمُرَادُ بِهَذَا الْخِطَابِ أَهْلُ الْبَغْيِ، وَتَقْدِيرُهُ: يَا أَيُّهَا الْبَاغُونَ، فَأَمَّا التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ فَبُعَدَاءُ مِنَ الْبَغْيِ، خَارِجُونَ مِنْ هَذَا النَّعْتِ، وَإِنَّمَا اسْتَقَصَيْتُ الْقَوْلَ فِي هَذَا مَعَ وُضُوحِهِ وَظُهُورِهِ لِأَنَّ مِنَ الشُّيُوخِ مَنْ يَتَهَيَّبُ رِوَايَةَ هَذَا الْحَدِيثِ مُقَدِّرًا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَمِّ الصَّحَابَةِ أَهْلِ الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ. وَحَضَرْتُ مُوسَى بْنَ هَارُونَ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا كِتَابَ الزُّهْدِ لِسَيَّارِ بْنِ حَاتِمٍ فَمَرَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَطَوَاهُ وَامْتَنَعَ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ لَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ، وَيَقُولُ فِيمَا يَقُومُ فِي نَفْسِهِ عَلَى تَزْوِيرِ الرُّوَاةِ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَزْعُمُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ إِنَّمَا هُوَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ الَّذِينَ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ، إِذْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّهُمْ يَرْتَدُّونَ وَيَمْنَعُونَ الصَّدَقَةَ، وَيَصْرِفُ قَوْلَهُ «يَحْمِلُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ، وَبَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ» إِلَى هَذَا الْوَجْهِ، يَقُولُ: يَمْنَعُ حَقَّ اللَّهِ ﷿ فِيهَا، وَيَمْنَعُ حَقَّ اللَّهِ فِي فَرَسِهِ فِي ارْتِبَاطِهِ وَالْجِهَادِ عَلَيْهِ، وَفِيمَا يُحْرِزُهُ وَيَدَّخِرُهُ فِي قَشْعِهِ، وَعَلَى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَوْجَبَ الصَّدَقَةَ فِي الْخَيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ⦗٣٩⦘، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا كَانَتِ الدَّوَابُّ لِلْبَيْعِ فَفِيهَا الصَّدَقَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَتْ خَيْلًا فِيهَا إِنَاثٌ فَطَلَبَ نَسْلَهَا فَفِيهَا الصَّدَقَةُ، فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَرَسًا فَرَسٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا ثُمَّ أَخَذَ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ. وَهَذَا الْقَوْلُ لِزُفَرَ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ. وَفِي قَوْلِهِ: «يَحْمِلُ شَاةً وَبَعِيرًا وَفَرَسًا» . وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَمْلُهُ لَهُ عَلَى التَّمْثِيلِ وَالْمَجَازِ، بِمَعْنَى أَنْ يَحْمِلَ وِزْرَهُ وَيَبُوءَ بِإِثْمِهِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيُجْعَلُ حَمْلُهُ لَهُ عُقُوبَةً لَهُ. وَمِثْلُهُ كَمَا وَرَدَ عَنْهُ ﷺ فِي مَانِعِ حَقِّ اللَّهِ ﷿ فِي غَنَمِهِ أَنَّهُ يُبْطَحُ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، تَطَأُهُ بِأَظْلَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا. وَقَالَ اللَّهُ ﷿ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة: ٣٥]
1 / 34
١٥ - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ ⦗٤٠⦘، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَقَالَ: «إِيَّاكَ أَنْ تَأْتِيَ بِبَعِيرٍ تَحْمِلُهُ لَهُ رُغَاءٌ» فَقَالَ: لَا آخُذُهُ، وَلَا أَجِيءُ بِهِ، فَأَعْفَاهُ
1 / 39
١٦ - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَبُو الْخَطَّابِ الْحَسَّانَيُّ، ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنِي سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنْ عَبْدٍ لَهُ مَالٌ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلَّا جُمِعَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُحْمَى عَلَيْهِ صَفَائِحُ فِي جَهَنَّمَ، وَيُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ مِنْ ظَهْرِهِ، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ ﷿ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلَّا يُجَاءُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَكْبَرِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِنَّ، يُبْطَحُ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَأَهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ، كُلَّمَا مَضَتْ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ ﷿ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» ⦗٤١⦘. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالْخَيْلُ؟ قَالَ: " الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِآخَرَ سِتْرٌ، وَلِآخَرَ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَرَجُلٌ يَحْبِسُهَا وَيُعِدُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَا غَيَّبَتْ فِي بُطُونِهَا فَهُوَ لَهُ أَجْرٌ، وَلَوْ رَعَاهَا فِي مَرْجٍ كَانَ لَهُ فِيمَا غَيَّبَتْ فِي بُطُونِهَا أَجْرٌ، وَلَوِ اسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ خَطَتْهَا أَجْرٌ، وَلَوْ عَرَضَ لَهُ نَهَرٌ فَسَقَاهَا مِنْهُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ قَطْرَةٍ غَيَّبَتْهَا فِي بُطُونِهَا أَجْرٌ، حَتَّى أَنَّهُ لَيُذْكُرُ الْأَجْرَ فِي أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَرَجُلٌ يَتَّخِذُهَا تَعَفُّفًا وَتَجَمُّلًا وَتَكَرُّمًا، وَلَا يَنْسَى حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَلَا بُطُونِهَا فِي عُسْرِهِ أَوْ يُسْرِهِ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ فَرَجُلٌ يَتَّخِذُهَا أَشَرًا وَبَطَرًا وَرِيَاءً النَّاسِ وَبَذَخًا". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَالْحُمُرُ؟ قَالَ: " مَا أُنْزِلَ فِيهَا عَلَيَّ شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٨] " قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: قَوْلُهُ ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: ٤] . فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَرَفَةَ يَقُولُ: ذَهَبَ نَاسٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ ﷿ يَفْعَلُ فِيهِ مِنَ الْأَفْعَالِ مَا يَفْعَلُ مِثْلَهُ فِي خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. قَالَ: وَأَمَّا كَلَامُ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ يَصِفُونَ أَيَّامَ الشِّدَّةِ وَلَيَالِيهَا بِالطُّولِ وَأَيَّامَ الرَّخَاءِ وَالسُّرُورِ بِالْقِصَرِ وَإِنَّمَا يُرَادُ شِدَّةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَثِقَلُهُ وَعِظَمُهُ وَهَوْلُهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
تَعَالَوْا أَعِينُونِي عَلَى اللَّيْلِ إِنَّهُ ... عَلَى كُلِّ عَيْنٍ لَا تَنَامُ طَوِيلُ
فَاعْلَمَ أَنَّهُ يُطَولُ عَلَى السَّاهِرِ لِشِدَّتِهِ عَلَيْهِ، وَلَا زِيَادَةَ فِي اللَّيْلِ وَلَا نُقْصَانَ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ ﷿ ⦗٤٢⦘. وَقَالَ آخَرُ يَذْكُرُ يَوْمًا بِالشِّدَّةِ:
[البحر الطويل]
فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي مُشِيرًا إِلَيْهِمُ ... أَذَا الْيَوْمُ أَمْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَطْوَلُ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي كَاهِلٍ:
[البحر المتقارب]
كُلَّمَا قُلْتُ مَضَى أَوَّلُهْ ... عَطَفَ الْآخَرُ مِنْهُ فَرَجَعْ
وَقَالَ آخَرُ فِي قِصَرِ أَيَّامِ السُّرُورِ:
[البحر الطويل]
تَمَتَّعْ بِذَا الْيَوْمِ الْقَصِيرِ فَإِنَّهُ ... رَهِينٌ بِأَيَّامِ الشُّهُورِ الْأَطَاوِلِ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
[البحر الطويل]
فَيَا لَكَ مِنْ لَيْلٍ تَقَاصَرَ طُولُهُ ... وَمَا كَانَ لَيْلِي قَبْلَ ذَلِكَ يَقْصُرُ
وَقَالَ حُمَيَدُ بْنُ ثَوْرٍ الْهِلَالِيُّ:
[البحر الطويل]
وَكَأَيْنَ لَهَوُنَا مِنْ رَبِيعٍ مَسَرَّةٍ ... وَصِيفٍ لَهَوْنَاهُ قَصِيرٍ ظَهَائِرُهْ
1 / 40
١٧ - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، قَالَا: ثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، ثنا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «لَا وَاللَّهِ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَّا مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا» . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ قُلْتَ؟» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ لَمَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ، إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلْتِ الشَّمْسَ، فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ اجْتَرَّتْ فَعَادَتْ فَأَكَلَتْ، فَمَنْ أَخَذَ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، ثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ، ثنا يَزِيدُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَحَدَّثَنَا الْحَضْرَمِيُّ، ثنا أَبُو كُرَيْبٍ، ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ ⦗٤٤⦘ إِبْرَاهِيمَ، ثنا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، ثنا هِلَالُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الزَّهْرَةُ: نَوَّارُ الرَّبِيعِ، وَزَهْرَةُ الدُّنْيَا: حُسْنُهَا وَبَهْجَتُهَا وَمَا أَظْهَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِمَّا يَتَنَافَسُ أَهْلُهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا دَانِيَةٌ تَتَقَدَّمُ الْآخِرَةَ. وَالرَّبِيعُ: فَصْلٌ مِنَ الزَّمَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَيُسَمَّى الْمَطَرُ بِعَيْنِهِ رَبِيعًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الْجَوَادِ الْكَثِيرِ الْمَعْرُوفِ الْفَائِضِ الْخَيْرِ رَبِيعٌ، وَيَجْمَعُ مَعْنَى الْخِصْبِ وَالسَّعَةِ وَالْخَيْرِ كَمَا قَالَ الْمُعَذِّلُ بْنُ غَيْلَانَ:
[البحر الطويل]
أَرَى خَلَّةً مِنْ صُحْبَةٍ وَقَرَابَةٍ ... وَذِي رَحِمٍ مَا كُنْتُ مِمَّنْ يُضِيعُهَا
وَلَوْ سَاعَدَتْنِي بِالْمَكَارِمِ قُدْرَةٌ ... لَفَاضَ عَلَيْهِمْ بِالنَّوَالِ رِبِيعُهَا
قَالَ أَبُو زَيْدٍ سَعِيدُ بْنُ أَوْسٍ: أَوَّلُ الرَّبِيعِ عِنْدَ طُلُوعِ الْحَمَلِ وَالثَّوْرِ وَالْجَوْزَاءِ، ثُمَّ الصَّيْفِ وَهُوَ عِنْدَ طُلُوعِ السَّرَطَانِ وَالْأَسَدِ وَالسُّنْبُلَةِ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ فِي كِتَابِ الصِّفَاتِ. أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ وَلَا اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّبِيعَ ⦗٤٥⦘ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ الْفَصْلُ الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّاسُ الْخَرِيفُ، وَذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّمْسِ بِرَأْسِ الْمِيزَانِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَإِنَّمَا سَمَّتْهُ الْعَرَبُ الرَّبِيعَ لِأَنَّ أَوَّلَ الْمَطَرِ يَكُونُ فِيهِ، وَسَمَّاهُ النَّاسُ الْخَرِيفَ لِأَنَّ الثِّمَارِ تَخْتَرِفُ فِيهِ فَهَذَا قَوْلُ الْعَرَبِ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ، وَقَدْ أَوْجَبَهُ ضَرْبٌ مِنَ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْفَصْلَ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ حُلُولُ الشَّمْسِ السَّرَطَانَ وَالْأَسَدَ وَالسُّنْبُلَةَ قَيْظًا، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي تُحْمَى فِيهِ الشَّمْسُ وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْحَرُّ، وَفَصْلُ الصَّيْفِ مَقْرُونٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ يَتَقَدَّمُهُ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ، وَلِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تُبْطِلُهُ، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ الصَّيْفِ وَبَيْنَهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
أَمَا يَسْتَفِيقُ الْقَلْبُ إِلَّا انْبَرَى لَهُ ... تَوَهُّمُ صَيْفٍ مِنْ سُعَادٍ وَمُرْبِعِ
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَبَاعَدَ أَحَدُ الْوَقْتَيْنِ عَنِ الْآخَرِ. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ النُّعْمَانِ الْقَزَّازُ، ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلَيٍّ الْعِجْلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ آدَمَ يَقُولُ: السَّنَةُ أَرْبَعَةُ أَزْمَنَةٍ، كُلُّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْهَا زَمَانٌ. فَالرَّبِيعُ زَمَانٌ، وَهُوَ أَيْلَولُ وَتَشْرِينُ الْأَوَّلُ وَتَشْرِينُ الثَّانِي، ثُمَّ الشِّتَاءُ زَمَانٌ، وَهُوَ كَانُونُ الْأَوَّلُ وَكَانُونُ الثَّانِي وَشِبَاطٌ، ثُمَّ الصَّيْفُ زَمَانٌ، وَهُوَ آذَارُ وِنَيْسَانُ وَأَيَّارُ، ثُمَّ الْقَيْظُ زَمَانٌ، وَهُوَ حَزِيرَانُ وَتَمُّوزُ وَآبُ ⦗٤٦⦘ وَسَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ السَّرِيِّ يَقُولُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ الرَّبِيعَ الْأَوَّلَ مِنَ السَّنَةِ ابْتِدَاؤُهُ لِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ تَمْضِي مِنْ أَيْلُولَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الرَّبِيعَ الْأَوَّلَ فِي تِسْعَةَ عَشَرَ تَمْضِي مِنْ آذَارَ. قَالَ: وَذَلِكَ آخِرُ أَمْطَارِ الشِّتَاءِ وَأَوَّلُ مَطَرِ الرَّبِيعِ. وَقَالَ: وَفِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ نَيْسَانَ آخِرُ مَطَرِ الرَّبِيعِ وَأَوَّلُ مَطَرِ الصَّيْفِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: الْوَسْمِيُّ: أَوَّلُ مَطَرِ الرَّبِيعِ، وَهُوَ أَوَّلُ الْمَطَرِ، وَهُوَ الَّذِي يِسِمُ الْأَرْضَ وَقَدْ تَرَدَّدَ ذِكْرُ الرَّبِيعِ فِي الشِّعْرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ الْمَطَرَ بِعَيْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ النَّبَاتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ الْوَقْتَ، فَأَمَّا مَا جَاءَ وَصْفُهُ وَطِيبُ أَوَانِهِ مِنْ قَدِيمِ الشَّعْرِ وَحَدِيثِهِ فَإِنَّمَا يُعْنَى بِهِ أَيَّامُ النَّشْرِ وَالزَّهْرِ وَالنَّوْرِ، كَمَا قَالَ الْبُحْتُرِيُّ:
[البحر الطويل]
أَتَاكَ الرَّبِيعُ الطَّلْقُ يَخْتَالُ ضَاحِكًا ... مِنَ الْحُسْنِ حَتَّى كَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَا
وَقَدْ نَبَّهَ الْمَنْثُورُ فِي غَلَسِ الدُّجَى ... أَوَائِلَ وَرْدٍ كُنَّ بِالْأَمْسِ نُوَّمَا
فَأَوْجَبَ اسْمَ الرَّبِيعِ لِفَصْلِ نَيْسَانَ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ: إِنَّ الرَّبِيعَ أَوَّلُ الزَّمَانِ وَهَذِهِ صِفَةُ زَمَنِ النُّورِ. وَأَنْشَدَنَا ابْنُ عَرَفَةَ بَيْتَيْنِ:
[البحر الوافر]
تَوَاصُلُنَا عَلَى الْأَيَّامِ بَاقٍ ... وَلَكِنْ هَجْرُنَا مَطَرُ الرَّبِيعِ
يَرُوعُكَ صَوْبُهُ لَكِنْ تَرَاهُ ... عَلَى رَوَعَاتِهِ دَانِي النُّزُوعِ
وَهَذَا نَعْتُ الْمَطَرِ فِي آذَارَ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا لَا تَقُومُ فِي مِثْلِهِ حُجَّةٌ مِنْ شِعْرِ الْمُتَأَخِّرِينَ، لِأَنَّ أَصْحَابَهُ أَعْلَامُ الدِّرَايَةِ، وَسَوَاءٌ قَالُوا ذَلِكَ قَوْلًا أَوْ أَتَوْا بِهِ شِعْرًا ⦗٤٧⦘، وَأَحْسِبُهُ نَقَلَ اسْمَ زَمَنِ النَّوْرِ إِلَى اسْمِ الرَّبِيعِ لِأَنَّ آثَارَ الْمَطَرِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ حَيَاةً لِلْأَرْضِ وَسَبَبًا لِلنَّشْرِ تَظْهَرُ فِيهِ، وَيَدُلُّكَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُ اللَّهِ ﷿: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ [الحج: ٦٣]، وَلَيْسَ اخْضِرَارُهَا عُقَيْبَ يَوْمٍ يُمْطَرُ فِيهِ، إِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ ﷿. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا بِمَكَّةَ مَوْجُودٌ، تَخْضَرُّ الْأَرْضُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِمَكَّةَ. وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي مَعْنَى الْمَطَرِ بِعَيْنِهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الطويل]
خَلِيلَيَّ أَمْسَى حُبُّ خَرْقَاءَ عَامِدِي ... فَفِي الْقَلْبِ مِنِّي زَفْرَةٌ وَصُدُوعُ
وَلَوْ جَاوَرَتْنَا الْعَامَ خَرْقَاءُ لَمْ نَبُلْ ... عَلَى جَدْبِنَا إِلَّا يُصَوبُ رَبِيعُ
وَقَالَ آخَرُ:
[البحر الطويل]
إِذَا غِبْتَ عَنَّا غَابَ رَبِيعُنَا ... وَنَسْقِي الْغَمَامَ الْغَدَقَ حِينَ تَؤُوبُ
وَقَالَ أَبُو طَالِبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي النَّبِيِّ ﷺ هَذَا الْبَيْتَ:
[البحر الطويل]
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... رَبِيعُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
وَأَنْشَدَنَا الْحَامِضُ: ثِمَالُ الْيَتَامَى وَأَنْشَدَنَا وَكِيعٌ لِصَمُوتٍ الْأَعْرَابِيَّةِ. قَالَ وَرَوَاهُ الْأَصْمَعِيُّ:
فَكِّهْ إِلَى جَنْبِ الْخُوَانِ إِذَا سَرَتْ ... نَكْبَاءُ تَقْطَعُ مَنْبِتَ الْأَطَنَابِ
وَأَبُو الْيَتَامَى يُنْبِتُونَ فِنَاءَهُ ... نَبْتَ الرَّبِيعِ بِكَالِئٍ مِعْشَابِ
⦗٤٨⦘
فَقَوْلُهُ ﷺ: «إِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ لَمَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ» . قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْكَلَامِ فِي تَحْذِيرِ الدُّنْيَا، وَالِاعْتِزَازِ بِزَهْرَتِهَا، وَالرُّكُونِ إِلَى غَضَارَتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَاشِيَةَ يَرُوقُهَا نَبْتُ الرَّبِيعِ، فَتَأْكُلُ مِنْهُ بِأَعْيُنِهَا، فَرُبَّمَا تَفَتَّقَتْ سِمَنًا فَهَلَكَتْ. يَقُولُ: فَمَنْ أَعْطَى كُفُؤًا وَرَفَاهِيَةَ عَيْشٍ فِي دُنْيَاهُ فَلْيَقْتَصِدْ وَلَا يَنْهَمِكْ فِيهَا فَتُلْهِيَهُ عَنْ الِاحْتِزَازِ لِآخِرَتِهِ فَيَهْلِكَ، كَمَا أَنَّ الْمَاشِيَةَ تُلْهِيهَا زُهْرَةُ النَّبَاتِ فَتَأْكُلُ حَتَّى تَهْلِكَ وَقَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [التكاثر: ٢] . وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ يَذْكُرُ الدُّنْيَا
كَيْفَ يَحْلُو طَعْمُ شَيْءٍ زَائِلٍ ... رُبَّ حُلْوٍ فِي مَذَاقِ الْعَيْشِ مُرُّ
وَالْحَبَطُ: انْتِفَاخُ بَطْنِ الدَّابَّةِ مِنَ الِامْتِلَاءِ، أَوْ مِنَ الْمَرَضِ. يُقَالُ: حَبَطَ يَحْبَطَ حَبَطًا وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ مَازِنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ سُمِّيَ الْحَبَطُ لِأَنَّهُ أَصَابَهُ مِثْلُ ذَلِكَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ لَهُ فَمَاتَ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهِ حَبَطِيُّ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - كَمَا يُنْسَبُ إِلَى سَلَمَةَ سَلَمِيُّ، وَإِلَى سَفَرَةَ سَفَرِيُّ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَثْقِلُونَ الْكَسْرَةَ مَعَ الْيَاءِ. وَقَوْلُهُ: «أَوْ يُلِمُّ» يَعْنِي: أَوْ يَقْرَبُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَوْلُهُ: «فَمَنْ أَخَذَ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ» الْبَرَكَةُ: الْكَثْرَةُ وَالِاتِّسَاعُ هَكَذَا قَالَهُ لَنَا ابْنُ عَرَفَةَ، وَسَأَلَتُ عَنْهُ الْحَامِضَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ، يَقُولُ: مَنْ أَخَذَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ الِاقْتِصَادِ وَالرِّضَى بِالْقَسْمِ حَيَا بِعِزِّ الْقَنَاعَةِ وَغِنَى النَّفْسِ حَيَاةً طَيْبَةً، وَمَنْ طَمَحَ بَصَرُهُ إِلَى كُلِّ مَا يَرَى مِنَ الْمَتَاعِ بِهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي تَأْكُلُ فَتَمْتَلِئُ ثُمَّ تَرُوثُ - وَالثَّلْطُ: الرَّوْثُ - وَتَبُولُ ثُمَّ تَجْتَرُّ، وَالْجَرَّةُ: أَنْ تُخْرِجَ مَا فِي بَطْنِهَا بَعْدَ الِامْتِلَاءِ فَتُدِيرُهُ فِي فَمِهَا، ثُمَّ تُعَاوِدَ الْأَكْلَ، لَا تَعْرِفُ غَيْرَ هَذِهِ الْحَالِ قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [محمد: ١٢] . وَقَوْلُهُ: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» . قَالَ ابْنُ الْبِرْتِيِّ: مَعْنَاهُ: يُكْثِرُ الْأَكْلَ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَتَكَلَّمُ وَلَا يَسْكُتُ، وَيَبْكِي وَلَا يَرْقَأُ دَمْعُهُ ⦗٤٩⦘، وَمَعْنَاهُ: يُكْثِرُ الْكَلَامَ وَيُكْثِرُ الْبُكَاءَ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: لَا تَشْبَعُ عَيْنُهُ وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، وَيُعْرَفُ بِالشَّامِيِّ، ثنا الْمُخَيْمِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنْبِجِيُّ، ثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَقُولُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: هَلْ كَانَ وَرَاءَكَ مِنْ غَيْثٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: صِفْهُ لِي، قَالَ: سَمِعْتُ الرَّوادَ يَدْعُو إِلَى زِيَادَتِهَا، وَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: هَلُمَّ ظُعُنُكُمْ إِلَى مَحِلِّةٍ تُطْفَأُ فِيهَا النِّيرَانُ، وَتَشْتَكِي فِيهَا النِّسَاءُ، وَتَنَافُسُ فِيهَا الْمِعْزَى، فَلَمْ يَفْهَمِ الْحَجَّاجُ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنَّمَا تُخَاطِبُ أَهْلَ الْعِرَاقِ فَأَفْهِمْهُمْ، قَالَ: نَعَمْ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، كَثُرَ الْمَطَرُ وَكَثُرَ الْكَلَأُ وَالْعُشْبُ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ نَارٍ يُخْبَزُ بِهَا، فَهَذَا إِطْفَاءُ النِّيرَانِ، وَأَمَّا تَشَكِّي النِّسَاءِ: وَلَا تَزَالُ الْمَرْأَةُ تَرْعَى بُهْمَهَا فَتَأْخُذُ مَرَّةً يَمْنَةً، وَمَرَّةً يَسْرَةً لِكَثْرَةِ الْكَلَأِ، فَتَتْبَعُهَا الْمَرْأَةُ مِنْ لَيْلَتِهَا وَلِسَاقِهَا وَجِيفٌ مِنَ الْإِعْيَاءِ، فَهَذَا تَشَكِّي النِّسَاءِ، وَأَمَّا تَنَافُسُ الْمِعَزَى فَإِنَّ بُطُونَهَا تَشْبَعُ، وَعُيُونَهَا لَا تَشْبَعُ
1 / 43
١٨ - وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، ثنا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ⦗٥٠⦘، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خُطْبَةً بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مُغَيْرِبَانِ الشَّمْسِ، حَفِظَهَا مَنْ حَفِظَهَا وَنَسِيَهَا مَنْ نَسِيَهَا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ ﷿ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، أَلَا فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ»
1 / 49
١٩ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْآمُلِيُّ، ثنا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ، ثنا عَمْرُو بْنُ طَارِقٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ⦗٥١⦘: «الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنِ اتَّقَى اللَّهَ فِيهَا وَأَصْلَحَ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْآكِلِ وَلَا يَشْبَعُ، وَبَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ كَبُعْدِ الْكَوْكَبَيْنِ، أَحَدُهُمَا يَطْلُعُ فِي الْمَشْرِقِ، وَالْآخَرُ يَغِيبُ فِي الْمَغْرِبِ» قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: سَأَلْتُ بَعْضَ شُيُوخِنَا عَنْ قَوْلِهِ: «الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ»، عَلَى مَا يَقَعُ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ؟ فَقَالَ: مَعْنَاهُ إِنَّ مَا عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ مَتَاعِهَا يَحْسُنُ فِي عُيُونِ أَهْلِهَا، وَيَحْلُو فِي صُدُورِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ، ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: ١٤] . وَأَنْشَدَ:
[البحر الطويل]
نَحْنُ بَنُو الدُّنْيَا خُلِقْنَا لِغَيْرِهَا ... وَمَا نَحْنُ فِيهِ فَهْوَ شَيْءٌ مُحَبَّبُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهُوَ عِنْدِي فِي نَعْتِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ الدُّنْيَا مَرْتَعٌ حُلْوٌ خَضِرٌ يَرْتَعُ أَبْنَاؤُهَا فِيهَا، وَيُعْجَبُونَ بِحُسْنِهَا، وَيَسْتَحْلُونَ الْحَيَاةَ فِيهَا، كَمَا تُعْجَبُ الْأَنْعَامُ بِخَضِرِ الرَّبِيعِ وَمَا حَلَا مِنْ نَبَاتِهِ وَبَقْلِهِ، وَأُلْحِقَتِ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ لِأَنَّهُمَا جُعِلَتَا نَعْتَيْنِ لِلدُّنْيَا، فَجَرَتَا عَلَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ. قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ الْعَيْنِ: الرَّتْعُ: الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ رَغَدًا فِي الرِّيفِ، وَلَا ⦗٥٢⦘ يَكُونُ الرَّتْعُ إِلَّا فِي الْخِصْبِ وَالسَّعَةِ كَمَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ﷺ: ﴿يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ [يوسف: ١٢] وَتَقُولُ: رَتَعَ فُلَانٌ فِي مَالِ فُلَانٍ، إِذَا انْقَلَبَ فِيهِ أَكْلًا وَشُرْبًا، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
[البحر الكامل]
ارْعَيْ فَزَارَةُ، لَا هَنَاكَ الْمَرْتَعُ
وَقَالَ:
أَبَا جَعْفَرٍ لَمَّا تَوَلَّيْتَ ارْتَعَوْا ... وَقَالُوا لِدُنْيَاهُمْ أَفِيقِي فَدَرَّتِ
وَهَذَا مَعْنًى يَتَرَدَّدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمُ: النِّعْمَةُ الظَّلِيلَةُ، وَالْعَيْشُ الْمُورِقُ، وَالشَّبَابُ الْغَضُّ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَالنِّعْمَةُ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ فَتُورِقَ فَتُظِلَّ، وَكَذَلِكَ الْعَيْشُ وَالشَّبَابُ لَيْسَتْ بِأَجْسَامٍ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ حُوَيَصٍ الْمَهْرِيُّ لِهَرْدَةَ بْنِ عَلِيٍّ عِنْدَ كِسْرَى أَبْرَوِيزَ، وَذَكَرَ قَوْمًا فَقَالَ: كَانُوا تَحْتَ كَنَفٍ مِنَ النَّعْمَاءِ غَدِقٍ، وَرَبِيعٍ مِنَ الْخُضْرَةِ مُؤَنَّقٍ، تَنْهَلُّ دُهْمُهُ بِالْحَبُورِ وَتَتَدَفَّقُ دِيَمُهُ بِالسُّرُورِ، يَجْتَنُونَ تَمْرَ الْغِبْطَةِ، وَيَتَفَيَّأُونَ فِي ظِلَالِ النِّعْمَةِ، وَيَخْتَالُونَ فِي رِيَاضِ الظَّفَرِ، حِمَاهُمْ غَزِيرٌ، وَذُرَاهُمْ حَرِيرٌ. وَأَنْشَدَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ لِحُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ:
[البحر الطويل]
يَقُولَانِ طَالَ النَّأْي لَنْ يُحْصَى الَّذِي ... رَأَيْنَاهُ إِلَّا أَنْ يُعُدَّ لَبِيبُ
بَلَى فَاذْكُرُوا عَامَ ارْتَبَعْنَا وَأَهْلُنَا ... مَرَاتِعَ دَارًا وَالْجَنَابُ خَصِيبُ
وَلَا يُبِعِدُ اللَّهُ الشَّبَابَ وَقَوْلُنَا ... إِذَا مَا صَبَوْنَا صَبْوَةً سَنَئُوبُ
لَيَالِيَ أَبْصَارُ الْغَوَانِي وَسَمْعُهَا ... إِلَيَّ وَإِذْ رِيحِي لَهُنَّ جَنُوبُ
وَإِذْ مَا يَقُولُ النَّاسُ شَيْءٌ مُهَوِّنٌ ... عَلَيَّ وَإِذَا غُصْنُ الشَّبَابِ رَطِيبُ
⦗٥٣⦘
٥٥ - قَوْلُهُ: عَامَ ارْتَبَعْنَا، يُقَالُ: ارْتَبَعَ الْقَوْمُ إِذَا أَرْتَعُوا فِي الْخِصْبِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُمْ عَاشُوا عَيْشًا هَيِّنًا طَيِّبًا، وَقَوْلُهُ: وَالْجَنَابُ خَصِيبُ: يَعْنِي: الْحَالُ جَمِيلَةٌ، وَالْعَيْشُ هِنِيءٌ تَمْثِيلٌ، وَقَوْلُهُ: إِذْ رِيحِي لَهُنَّ جَنُوبُ: يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مُوَافِقًا لَهُنَّ بِشَبَابِهِ وَطَرَاوَتِهِ كَمَا يُوَافِقُ الْجَنُوبُ الْمَطَرَ وَالْخَصْبَ، وَقَوْلُهُ: غُصْنُ الشَّبَابِ رَطِيبُ: يَعْنِي نَضَارَةَ الشَّبَابِ وَحَسَنَهُ وَاعْتِدَالَهُ، فَمَثَّلَهُ بِالْغُصْنِ إِذَا أَوْرَقَ وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ" وَبُعْدُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ كَبُعْدِ الْكَوْكَبَيْنِ، أَحَدُهُمَا يَطْلُعُ فِي الْمَشْرِقِ، وَآخَرُ يَغِيبُ فِي الْمَغْرِبِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْكَوَاكِبَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَنَازِلَ لِلْقَمَرِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ [يس: ٣٩] وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْأَنْوَاءُ، وَيَسْقِي اللَّهُ عِبَادَهُ بِهَا الْغَيْثَ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَغِيبُ فِي الْمَغْرِبِ غُدْوَةً حَتَّى يَطْلُعَ رَقِيبُهُ فِي الْمَشْرِقِ غُدْوَةً، فَهُمَا لَا يَلْتَقِيَانِ وَلَا يَتَقَارَبَانِ، فَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ أَحْوَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي حُظُوظِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ، لَا يَتَقَارَبُ قَاهِرٌ وَمَقْهُورٌ، وَمَحْرُومٌ وَمَرْزُوقٌ، وَمُعَافًى وَمُبْتَلًى، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ
1 / 50
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ السِّلَفِيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ ﵁: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُشَرَّفِ بْنِ الْمُسْلِمِ الْأَنْمَاطِيُّ بِالْإِسْكَنْدَرَيَّةِ، ثنا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الدَّقَّاقُ بِمِصْرَ، ثنا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ طَالِبٍ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَلَّادٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ بِرَامَهُرْمُزَ، ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ، مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي صَفْوَانَ، ثنا أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ الشَّرِيطُ فِي جَنْبِهِ فَقُلْتُ: لَوْ ⦗٥٨⦘ نِمْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَا هُو أَلْيَنُ مِنْ هَذَا، فَقَالَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ مَرَّ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَرَأَى شَجَرَةً فَاسْتَظَلَّ تَحْتَهَا ثُمَّ رَاحَ وَتَرْكَهَا» هَذَا مَثَلٌ فِي سُرْعَةِ انْقِطَاعِ الدُّنْيَا بِصَاحِبِهَا، وَإِنَّ الْكَائِنَ وَاقِعٌ. وَقَالَ الْعَدَوِيُّ:
[البحر البسيط]
يَا أَيُّهَذَا الَّذِي قَدْ غَرَّهُ الْأَمَلُ ... وَدُونَ مَا يَأْمُلُ التَّنْغِيصُ وَالْأَجَلُ
أَلَا تَرَى إِنَّمَا الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ... كَمَنْزِلِ الرَّكْبِ دَارًا ثَمَّةَ ارْتَحِلُوا
حُتُوفُهَا رَصَدٌ وكَدُّهَا نَكَدٌ ... وَعَيْشُهَا رَنَقٌ وَمُلْكُهَا دُوَلُ
1 / 57