فأطرق المطران وهو ماسك لحيته بيده يفكر في الأمر، ثم قال للأميرين: انتظراني هنا حتى أذهب وأقابل القنصل.
ونادى قواسه ولبس جبته وسار إلى قنصلاتو فرنسا، فقابله القنصل بالترحاب وتذاكرا مليا ثم وعده خيرا.
الفصل الخامس عشر
كشف الغامض
اثنان من العملة دخلا مغارة بين الشويفات وكفر شيما، ظاهرها قبر بسيط باب في الصخر الكذان الأبيض، عرضه نحو ثلاث أقدام وعلوه نحو أربع، وقد علاه الطحلب، وعلت النباتات حوله، حتى كادت تسده من الأقحوان والشوكران وبخور مريم، وأينعت السراخس داخل المغارة من كل ما يكره الشمس ويحب الظل، وكان مع العاملين أدوات الركس مران ومجرفتان، وهما أخوان أتيا ليغرسا نصب التوت حيث كان التين مزروعا؛ لأنهما رأيا الحرير أربح من التين، وهما مالكان لتلك الأرض مثل سائر أبناء لبنان؛ لأنه قلما يخلو أحد منهم من ملك يعمل به وكثيرا ما ينقب البور ويفتت الصخر ويزرع في فتاته تينة أو كرمة أو توتة أو زيتونة.
واستمر وقوع المطر ساعة من الزمان فاضطرا أن يبقيا في المغارة كل تلك المدة، وصارت عيونهما ترى ما لم تكن تراه أولا؛ لأنها اعتادت الظلام فاتسعت حدقاتها، وجمعت النور القليل المنعكس عن جدران المغارة فانتبها إلى حفرة في داخلها كأنها باب مغارة أخرى، فقاما إليها وجعلا يحفران فأزالا التراب، وإذا هما بباب آخر كالباب الأول ولكنه مسدود بحجر كبير.
فتعاونا عليه ونزعاه من مكانه، ودخلا المغارة الثانية وهي أكبر من الأولى، وكان الظلام حالكا فيها إلا حيث يدخلها قليل من النور من الباب الذي فتحاه، فمشيا فيها وعثرا بما ظناه عظاما فاقشعر بدناهما ووقفا حائرين، ثم اعتمدا على أن يرجعا الحجر إلى مكانه، ويعودا بعد الظهر ومعهما شمعة، فعادا بعد الظهر ولم يكن أحد يشك في أنهما عائدان لزرع نصب التوت بعد انقطاع المطر؛ لأن الأرض أرضهما وكانا يزرعان التوت فيها، ودخلا المغارة وفتحا الباب الداخلي ثانية وأنارا الشمعة، فدهشا مما رأيا فيها؛ فإنهما رأيا عظام عشرين أو ثلاثين جثة، وبعض تلك الجثث لم يكن باليا بل كان جافا مسودا، ومع بعضها أسلحة قديمة: دروع وسيوف وفئوس وخوذ، كأن الذين وضعوا القتلى هناك من أصدقائهم لا من أعدائهم، أو كأن الفرصة لم تسمح لهم لسلبهم فألقوهم في المغارة بأسلحتهم.
فاتفق الأخوان على أن يسدا الباب الداخلي كما كان ويعودا في الليل، فيأخذا الأسلحة شيئا فشيئا حتى لا يشعر بهما أحد، فسداه وخرجا وكانت السماء قد صحت، فعادا إلى غرس نصب التوت ووضعا الشمعة على حجر إلى جانب باب المغارة.
ومر بهما الأمير أحمد حينئذ، وكان قد خرج للصيد وحده، فوقفا للسلام عليه فحانت منه التفاتة إلى باب المغارة؛ لأنه لم ينس غرض السر هنري بدمونت، فرأى الشمعة موضوعة على الحجر، فسألهما عنها فارتبكا في الجواب، فوقف مشتبها بأمرهما وطلب منهما أن يصدقاه الخبر، فجعل كل منهما ينظر إلى أخيه، وكانا كلاهما من حزبه يركنان إليه، فلم يريا لهما بدا من إخباره بما رأيا في المغارة الداخلية، فدخل معهما وأزاحا الحجر، وأوقدا الشمعة فرأى ما رأياه وقال: لا بد وأن تكون جثة جد السر هنري بين هذه الجثث، لا سيما حينما رأى الأسلحة قديمة، نعم إن الصدأ كان قد أكلها، ولكن شكلها لا يزال ظاهرا، وهي من الأسلحة القديمة التي كانت تستعمل في عهد الصليبيين.
فأمرهما أن يسدا المغارة ولا يخبرا أحدا أبدا ، ووعدهما بمشتري كل ما وجداه فيها، وعاد إلى داره وهو حائر في أمره: هل يخبر السر هنري بما رأى فيكثر تردده على كفر شيما والشويفات ويرى سلمى فيزيد ميلها إليه وحبها له، أو يكتم الأمر عن كل أحد ويقنع السر هنري أن التفتيش عن جده في تلك الجهات ضرب من العبث، وعليه أن يفتش عنه في جهات أخرى. فقام في نفسه عاملان متنازعان: عامل الشهامة وكرم الأخلاق يقول له: هذا رجل غريب، وقد التجأ إليك واستنجد بك، وقد صار في طاقتك أن ترشده إلى ما استعان بك عليه، فيجب أن تلبي طلبه وترسل تخبره بما اكتشف هذان الرجلان وجزاؤهما عليه، وإلا فأنت لئيم لا نجدة لك. وعامل الحب والأثرة يقول له: هذا مناظرك في حب ابنة خالتك، ويجب عليك أن تبعده عنها بكل طاقتك، ولا تدع له سبيلا للتردد إلى هذه الجهات فتنساه وتعود إليك. فتقول له الشهامة: إن كانت ابنة خالتك قد فضلت هذا الأجنبي عليك فلا خير فيها لك، ويجب عليك أن تسلوها وتنساها. فيقول الحب: هذا اغترار بالظواهر، فقد اغترت به وقد لا تخطر على باله أبدا، فإذا لم تعد تراه نسيته ونجت من ورطة كان يمكن أن تقع فيها، فيجب عليك أن تبذل كل واسطة لنجاتها منها.
अज्ञात पृष्ठ