وساحل بيروت الخصيب ونهرها
وتلك الروابي والقرى والصفاصف
بساط وسيف والنهود ولؤلؤ
نضيد على صدر الربى متراصف
وكان الأمراء آل شهاب وآل أبي اللمع قد وفدوا إلى الحدث من جهات مختلفة، أتي كل منهم بموكبه من الخدم والحشم، فلم تعد تسمع إلا صهيل الخيل، وإطلاق البنادق، وأصوات الطبول والدفوف والزمور، وكلما وصل وفد منهم قوبل بالأغاني والزغاريد وقماقم العطر ومجامر البخور، واجتمع أولاد القرية ووقفوا عن كثب مبهوتين مدهوشين، والسعيد منهم من أعطي فرسا ليمشي به، أما آباؤهم فقاموا على خدمة الضيوف والأتباع كأنهم كلهم من خدم الأمير.
وقام الأمراء في الصباح واعتلوا صهوات خيولهم، فتألف من ذلك موكب كبير يأخذ الطرف مهابة وجلالا. سارت في مقدمته الأميرة جلنار أم الأمير قاسم على جواد أشهب يتهادى بما عليه من الحلى، وإلى جانبيها اثنان من خواص أهل القرية ماسكان بركابها، ووراءها سائر الأمراء، وأمامهم وخلفهم خلق كثير فيه المغنون والمطبلون والمزمرون، وسار هذا الموكب الهوينى، وكلما مر ببيت قابلته نساؤه بالزغاريد وقماقم ماء الود إلى أن خرجوا من بين البيوت، وساروا في الأرض البراح بين الحدث وكفر شيما، وكان الماء قليلا في نهر الغدير فقطعوه، ولقوا هناك وفدا من كفر شيما آتيا لاستقبالهم والترحيب بهم، فتصافحوا وهم على ظهور الجياد، وأكثر رجالهم من إطلاق البنادق، ثم نصب الميدان في سهل فسيح على ضفة الغدير، فانقسم الأمراء فريقين وجعلوا يترامون بالجريد؛ يهجم الفارس منهم والجريدة في يده ويرمي بها خصمه فتخرج كالشهاب الثاقب؛ لأن زخم الفرس يضاف إلى قوة الساعد، ويراها الخصم مقبلة إليه، فيحيد من طريقها أو يغطس تحت بطن جواده أو يستلقيها بيده أو يدفعها عنه بجريدة أخرى، والفتيان من القريتين يجولون في الميدان، وكلما وقعت جريدة التقطوها وأعطوها لفارس من الفرسان، وظل أولئك الأمراء في كر وفر وهجوم ودفاع إلى أن تصببت جباههم عرقا وسبحت جيادهم في عرقها، وإذا بفتى يصرخ ويقول: أخ يا عيني يا أمي. كان هذا الشاب يلتقط الجريد فأصابته جريدة ذهبت بعينه، فالتف عليه غيره من الفتيان، وأتوا به إلى الأمير الذي ضربه، وقالوا له: انظر يا سيدي، عبدك فلان طارت عينه. فقال: اربطوها له. ثم نادى وكيله وقال له: أرسل إلى هذا المسكين كيس غلة وخمسمائة غرش. فتقدم أبو الفتى وقبل يد الأمير ودعا له بطول العمر، ومن يهن يسهل الهوان عليه!
وكان الأمير أحمد أرسلان في جملة المدعوين إلى هذا العرس، وذكره للسر هنري بدمونت في إحدى خطراته إلى بيروت فود السر هنري أن يكون حاضرا ليشهد الميدان ولعب الجريد، فدعاه الأمير أحمد إلى الحضور، وكان يعلم أن الميدان سينصب على ضفة الغدير، فوافاه السر هنري إلى كفر شيما، وسارا مع أمرائها الذين لاقوا أمراء الحدث، ووقفا يريان الفرسان تكر وتفر، ولم يشتركا معهم، وحاول كثيرون إغراء الأمير أحمد بالنزول إلى الميدان، فلم ينزل معتذرا بوجود السر هنري معه، وهو في الباطن يخشى حدوث ما لا يرضاه؛ لأن الأحقاد الكامنة بين النصارى والدروز كانت قد أخذت في الظهور، وتطاول أحد الفتيان عليه ووجه جريدة إليه، وهو يقول: خذها يا أمير أحمد، ولا تقل إني غدرتك. فاستلقى الأمير أحمد الجريدة بمحجن كان في يده ولم يحذفه بها، وكان ابنا الأمير عباس أخوا الأميرة سلمى هناك فبادرا إلى الذي رمى الجريدة وتكلما معه؛ لأن أمهما أوجست شرا من حضور ابن أختها، فأوصت ابنيها أن لا يفارقاه، وقالت لهما: إن العيون محمرة فلا تدعا ابن خالتكما وحده.
ولما انتهى الميدان وأصيب الفتى بجريدة فقأت عينه، قال بعض الحضور: إن هذا الأمير الإفرنجي لا بد وأن يكون عارفا بالطب. فأتوا بالفتى إليه فنظر وإذا العين قد فقئت تماما ، فقال للأمير أحمد: لا أرى أن رد النظر إليها في الإمكان، ولكن يجب أن تعالج لكيلا تلتهب، ويمتد الالتهاب إلى أختها. ثم نزع ورقة من جيبه، وكتب له سطرين إلى طبيب في بيروت ليذهب إليه بها، فأخذها الفتى وقبل يده.
ثم سار الموكب في طريقه كأن عين ذلك الفتى ذبابة كانت على رأسه فأطارتها الجريدة عنها! حتى إذا بلغ الموكب دار العروس في كفر شيما علت الزغاريد، وطلقات البنادق وأصوات الطبول والزمور، وبادر رجال القرية إلى استلام الخيول والمشي بها، وتصافح الأمراء ودخلت أم العريس واعتنقت كنتها، ثم قدمت القهوة والشبقات، ومدت أسمطة الطعام من الخرفان المحمرة والديوك المقمرة والرز المفلفل والألبان والأسماك وأنواع الحلوى، ولما فرغ الأمراء من الطعام جلس الأهالي والأتباع أفواجا أفواجا، حتى إذا امتلأت الخواصر وفرغت الجفان انتظم الموكب ثانية، وقامت العروس فودعتها الأميرة سلمى وكاد يغمى عليها، واعتنقتها الأميرة هند وهي تبكي؛ لأنها ربتها بعد وفاة أمها فكانت مثل أم لها وودعها أبوها وزوجته؛ لأنه كان قد تزوج بعد وفاة أمها، فخنقت العبرات الأميرة صفا، لا سيما وأنها تذكرت أمها وشعرت حينئذ باليتم شعورا أليما لم يخامر قلبها من قبل.
ثم أركبوها وساروا بها الهوينى وهم ينشدون الأناشيد ويطبلون ويزمرون، إلى أن وصلوا إلى دار العريس، فقام المطران ولفيف الكهنة بصلاة الإكليل، ووزعت الهدايا من أكياس القصب ومناديل الحرير ومدت أسمطة الطعام، وزينت الدار وما حولها تلك الليلة وأطلقت فيها السهام النارية.
अज्ञात पृष्ठ