قال ذلك ونهض وهو يقول: «انهضي الآن إلى فراشك.»
فنهضت وقلبها يرقص طربا، وإن كان قد ساءها خبر فراقه، ولكنها سرت لسعيه في الانتقام لأبيها، وشغل ذهنها بما قاله عن نفسه من أنه أكثر مما عرفت عنه، فقالت في نفسها: «من عساه أن يكون؟» ولكنها لم تجسر على سؤاله، فأطاعته وهمت بالذهاب إلى الفراش. فأشار بهزاد إلى حجرة وحمل المصباح بيده ومشى بين يديها وهي تتبعه وأفكارها تائهة، فدخلت الحجرة وفيها سرير عليه فراش من جلد فوقه وسادة وغطاء فقال: «هذا هو فراشك الليلة.» ورجع والمصباح في يده ولم تمض هنيهة حتى توارت أشعة ذلك المصباح عنها فنزعت الخمار ونامت. •••
توسدت ميمونة الفراش واستولى السكوت على البيت وخيم الظلام، فلما خلت إلى نفسها تذكرت ما مر بها منذ أن اختبأت في الإيوان إلى أن اطمأن قلبها ووثقت من محبة بهزاد، ثم تنبهت للصندوق الذي رأته بيد بهزاد فازدادت رغبتها في معرفة ما فيه.
فقضت ساعة أو ساعتين وهي تتقلب على الفراش وأجفانها لا تغمض، وطال أرقها حتى ملت الوساد وحدثتها نفسها أن تنهض فأقعدتها الظلمة.
وفيما هي على هذه الحال من الأرق والقلق وقد زادها السكوت وحشة، سمعت حركة وراء الحائط فأصغت فسمعت ضرب معول في الأرض فخفق قلبها وظنت أنها واهمة، ثم سمعت همسا فنهضت مذعورة والتفتت إلى جدران الحجرة فرأت فوق سريرها نافذة صغيرة يبدو منها بصيص نور ضعيف؛ فأخرجت رأسها من النافذة فرأت خلاء بين البيت والسور على أرضه مصباح عرفت أنه مصباح بهزاد، ورأت رجلا طويلا قد حسر عن ساعديه وشمر عن ساقيه وكشف رأسه وبيده معول وأمامه حفرة وقد أخذ ينبش بمعوله، وأمامه رجل آخر عرفت أنه بهزاد، وتفرست في صاحب المعول فإذا هو سلمان؛ فازدادت دقات قلبها وارتعدت حتى كادت تسقط، فتجلدت وأسندت نفسها إلى النافذة وهي تحاول أن تختبئ لئلا يراها بهزاد. وتربصت فسمعت بهزاد يقول: «لا بد أن يكون هنا، احفر أيضا.»
فقال سلمان: «أخاف أن تكون مخطئا يا سيدي؛ فقد أخرجنا ترابا كثيرا ولم أجد أثرا للجثة.»
فقال: «لا، لست مخطئا؛ ألم يكن هنا إيوان سابور؟» قال: «بلى.»
قال: «قد أكد لي ذلك الشيخ الهرم أن المنصور كان يجلس في قاعة الإيوان حيث هذا البيت الآن، وأنهم دفنوا الجثة في بستان الإيوان، ولا يمكن أن يكون البستان في غير هذا الخلاء، وقد نبشنا كل بقعة منه ولم يبق غير هذه؛ فاحفر.»
قال: «ليت الشيخ كان معنا الليلة فيهدينا إلى مكان الجثة.»
قال: «ألم أقل لك إنه مات؟ ولكنه والحمد لله بقي حيا حتى دلنا على المكان، وهو على ثقة من قوله لأنه عاش في عهد المنصور شابا وأصابه مما رأى جزع بقي أثره في ذهنه لم ينسه طول عمره. احفر، إننا على هدى.»
अज्ञात पृष्ठ