فقال: «إن أمير المؤمنين أدرى مني بما يحاك في الخفاء، ولا أحب أن أدخل بينه وبين أخيه، ولكنني لا أستطيع السكوت عما يمس الدولة وحقوق المسلمين؛ فما معنى أن تأوي إلى بيت مولانا المأمون بنت جعفر عدو الخلافة الذي قتل جزاء دسه وخيانته وإطماعه المأمون في ولاية العهد بعد أن كانت لأمير المؤمنين وحده، وهل لم يقنع المأمون بولاية العهد فامتد طمعه إلى الخلافة؟»
فلما سمع الأمين ذلك أجفل وحدق في الفضل تحديقا شديدا، ولو لم يكن الفضل قد تعوده لهاب منظره؛ لأنه كان شديد الهيبة قوي البدن يلقى الأسد ولا يبالي؛ فاستدرك الفضل قائلا: «لا أعني أن مولانا المأمون يطلب الخلافة لنفسه، ولكنني أخشى إذا طال حلم أمير المؤمنين عليه أن يغريه بعض خاصته بطلبها.»
فانصرف ذهن الأمين عن ميمونة إلى الخلافة وأخيه، وإنما جره الفضل إلى ذلك عمدا ليشغله عن لومه في طلبها باسمه، وليتدرج إلى إغرائه بخلع المأمون تأمينا لنفسه؛ لعلمه أن المأمون إذا أفضت الخلافة إليه فلن يبقي عليه ولا على أهله وربما نكل بهم، فلا نجاة له ولهم إلا بخلعه عن خراسان ليتفرق مريدوه عنه ويضعف أمره.
فقال الأمين: «إن هؤلاء الفرس أصل بلائنا؛ فإنهم ما زالوا من زمن أبي مسلم يناوئوننا ويمنون علينا بأنهم ساعدونا في نيل الخلافة مع أنهم لم ينالوا شيئا إلا باسمنا ، وهم الآن يغرون أخي بأن يستأثر بها دوني.»
فقال الفضل: «إذا كان أمير المؤمنين في شك مما أقول، فهذا رئيس المنجمين، فليسأله عن الرجل الخراساني الذي أشرت بالقبض عليه يوم وصولي، إن هذا الرجل رسول حزب الخراسانيين أنصار المأمون، وقد أرسلوه ليدس الدسائس ويوقظ الفتنة، وعلمت بأمره يوم كنت في طوس، فلما قدمت إلى بغداد أرسلت في طلبه فلم يجده العيارون في منزله، ثم لقيت الملفان سعدون رئيس المنجمين أمس، وتحدثت معه في ذلك، وكان صاحب الشرطة معنا، فعرف الملفان الرجل وقال: «إنه هرب من بغداد إلى أحزابه الطامعين في إرجاع الأمر إلى الفرس.» ولا ريب في أنهم يتخذون اسم مولانا المأمون وسيلة إلى تحقيق مطامعهم، فإذا بلغوا مأربهم فما أظنهم يستبقون أحدا ولا المأمون نفسه. لا تغضب يا مولاي إذا صرحت بما يجول بخاطري؛ فإن صالح الدولة يقتضي ذلك، وها هو ذا ابن ماهان صاحب الشرطة يؤيد قولي. والرأي لأمير المؤمنين.»
وكان الفضل يتكلم منفعلا متظاهرا بالغيرة على الدولة، والأمين يصغي له بكل جوارحه. وقد أهمه الأمر فأمسك عن التصريح برأيه حتى يشاور ابن ماهان، وعاد إلى الكلام عن ميمونة فقال: «سننظر في ذلك، وأما ميمونة التي ذكرت أنها ابنة جعفر البرمكي، فإنها في قصرنا بين جوارينا، ولا أرى أن نسيء إليها إلا إذا ظهر لنا ما يوجب ذلك، وقد ترفقت بها لأجل بنت أخي.»
فقال الفضل: «الرأي لأمير المؤمنين.» ولم يهمه أمر الفتاة مثلما أهمه خلع المأمون، وإن كان ابنه يؤثر ميمونة على كل الدولة لأنه شاب ربي في مهد الرخاء ولم يعان السياسة، وقضى ما مر من عمره متكلا على أبيه، وقد علق بميمونة وما كان يريد بها إلا خيرا، ولولا ما سبق من حبها بهزاد وحقدها على الفضل، لما كان ثمة ما يمنعها من قبوله.
ورأى الفضل أن الأمين يشير بفض الجلسة، فنهض وخرج وظل الأمين وحده يفكر حائرا فيما وعد به ابنة أخيه من إطلاق سراح ميمونة، ويرى في إطلاقها خطرا خوفه الفضل منه. ثم نهض وسار إلى دار النساء، وسأل عن مقر بنت أخيه فدلوه عليه.
وكانت ميمونة قد شعرت عند دخولها قصر الخلافة بانقباض شديد، وقام بذهنها أنها أضاعت آمالها، لعلمها بما ينويه حبيبها من الكيد للأمين، فلم تجف لها دمعة رغم ما حاولته دنانير من التخفيف عنها. وكانت زينب تزداد شفقة عليها ورغبة في إنقاذها، وقد بشرتها بما وعدها به عمها من إطلاق سراحها. فانقضت الليلة وميمونة يائسة لعلمها بأن الفضل لا يسكت عن كشف حقيقتها للأمين حتى ينجو من اللوم.
وفي صباح اليوم التالي جاءتها دنانير وزينب، وأدارتا الحديث معها للترفيه عنها، ولكنها ظلت منقبضة النفس لا يفرج كربتها غير البكاء، ولا سيما أن جدتها ليست معها، وأنها لا تعرف أين سلمان؛ فمكثت صامتة ودموعها تتساقط على خديها وقد ظهر عليها الذل والانكسار. وزاد هذا زينب انعطافا نحوها، وكانت واثقة من وعد عمها. وبينما هن في ذلك سمعن حركة وهرجا بين خدم القصر، ثم جاءت بعض الجواري تقول: «إن أمير المؤمنين قادم ليرى ابنة أخيه.»
अज्ञात पृष्ठ