आशा और यूटोपिया एर्नेस्ट ब्लोच के दर्शन में
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
शैलियों
هكذا يكمن توهج الإلهام في لقاء عبقرية خاصة أو موهبة خلاقة مع عصر يحمل مضمونا خاصا ومستعد للتغيير. فالإبداع «ليس سوى استجابة لظرف تاريخي محدد، وفي وضع ثقافي وسياسي معين، وفي مرحلة تاريخية بعينها (...) والوعي بالموقف الحضاري الكلي الذي يوجد فيه المبدع هو الشرط الأول للإبداع. وللموقف الحضاري أبعاد مختلفة يتفاعل معها المبدع وتتفاعل هي فيه. وعادة ما تكون هذه الأبعاد الحضارية ثلاثة وتشير إلى جدل الزمان بين الماضي والحاضر والمستقبل.»
45
لا بد إذن من توافر الشروط الذاتية والموضوعية للتعبير عن الجديد بحيث يستطيع هذا الجديد أن ينطلق خارجا من مرحلة الحضانة. والشروط الموضوعية هي دائما ظروف اجتماعية-اقتصادية تلتقي مع ذات لها إرادة مبدعة تدرك هذه الشروط وتعبر عما فيها من إمكانات. ويأتي الإلهام من متطلبات العصر التي تعي نفسها في العبقرية الفردية. ومن الطبيعي أن يؤكد بلوخ على ضرورة التزامن مع اللحظة التاريخية الحاسمة كخاصية أساسية لتكوين العبقرية، أي لا بد من التقاء الذاتي والموضوعي. وربما يكون من أوضح الأمثلة على ذلك أدباء ومفكرو عصر التنوير السابقون على الثورة الفرنسية، والأدباء العظام الذين جددوا الأدب الروسي الحديث قبل الثورة الروسية، وبعض أعلام أدبنا وفكرنا العربي الحديث الذين أسهموا في تأسيس ما يسمى بالنهضة العربية أو ما يسمى بعصر التنوير العربي.
وأخيرا تأتي المرحلة الثالثة من مراحل الإنتاج والإبداع، وهي مرحلة العرض أو الشرح. فمن الطبيعي أن الإلهام (أو الحدس) المفاجئ لا يكفي لإتمام عمل فني أو فكري، لأنه مجرد بداية ونقطة انطلاق على طريق البناء والجهد الشاق الذي تستلزمه الصياغة والتشكيل والتفصيل ... إلخ، حتى يصبح العمل واقعيا حيا يمكن أن يؤثر على الواقع. وقد عبر كثير من المبدعين عن عجز الإلهام وحده عن إقامة عمل متكامل، وبينوا أن الفكرة المحورية التي هبطت عليهم بما يشبه الكشف المفاجئ قد استلزمت منهم بعد ذلك جهد عمر كامل لتوضيحها وتفصيلها وعرضها في بناء متكامل. فيجب ألا يكون هناك فجوة بين الرؤيا والعمل، وذلك على نحو ما يعبر فان جوخ بقوله: «إن الشعاع الأول للانطباع لا بد أن يشارك في عملية الرسم.» والعبقرية كما يقول شوبنهور تشبه شخصا يصيب الهدف البعيد الذي لا يملك الآخرون القدرة على رؤيته. فالعبقرية هي إظهار درجة عالية من الوعي بال «ليس-بعد» في الذات وفي العالم، بمعنى أنها وجود يتوسط ما قبل الوعي وما ظهر أخيرا وتشكل في العالم، وينطبق هذا على كل من العبقرية العلمية والأدبية، لأن ما يميز كلا منهما هو تشكيل ما لم يتشكل بعد. فالعبقرية كوعي متقدم تنطوي على حساسية عالية لإمكانات لحظة التغيير الحاسمة في العصر. ويكمن الوعي بال «ليس-بعد» في التوقع العيني، فكل عمل أدبي يظل مدفوعا تجاه الجانب الآخر الخفي أي تجاه تصوره للمستقبل الذي لم يظهر بعد في عصره، ولهذا السبب وحده تتضمن الأعمال الكبرى شيئا ما تقوله لكل المراحل التاريخية. والأعمال العبقرية لا تعبر عن يومها وإنما تلقي الضوء على وجه المستقبل. فالعمل الفني الناجح ينطلق من الإلهامات والحدوس المنبئة بالجديد ليصورها في صور وأفكار ورموز ومواقف وصيغ حية. والأعمال الفنية في حقيقتها بناءات نموذجية قلقة للحقيقة التي لم تزل غائبة. وأخيرا فإن العملية الإبداعية هي قمة الوعي، وهي اللون الأزرق فوق هذه القمة لأنه اللون المضاد للظلام، ولأن الذي لم يصبح بعد يشير إلى التقدم للأمام، إلى شروق فجر جديد.
46
في النهاية يمكن القول إن الوعي المسبق بالجديد القادم أو ما يسميه بلوخ الوعي بال «ليس-بعد» حاضر في وعي البشر على الرغم من عدم شعورهم به في معظم الأحيان، ولكنه يظهر في أحلام اليقظة وفي النشاط المبدع. ويمكن القول أيضا إن بلوخ نفسه من خير الأمثلة على استشعار الوعي بال «ليس-بعد»، وإن الفكرة المحورية في فلسفته (التي سبق الحديث عنها والتي تهبط على المبدعين بما يشبه الكشف المفاجئ وتستلزم منهم بعد ذلك جهد عمر كامل لتوضيحها وتفصيلها وعرضها في بناء كامل) هذه الفكرة المحورية - وهي فكرة الأمل اليوتوبي - بدأت تراوده في مرحلة الصبا بما يشبه الوعي المسبق أو الوعي الذي لم يتم الوعي به بعد. وقد استطاع في مرحلة الشباب أن يشرحها شرحا مفصلا ومفعما بالحيوية والقوة والجيشان في كتابه الأول «روح اليوتوبيا»، ثم تتابعت أعماله التالية كالدوائر التي تحيط بنقطة المركز وتمتد لآفاق أوسع وأبعد، دون أن تغيب عنه تلك الفكرة المحورية التي استشعرها لأول مرة بصورة غير واعية فيما وصفه هو نفسه بالوعي المسبق أو الوعي الذي لم يتم الوعي به أو الوعي بال «ليس-بعد». ولم يتوقف بعد ذلك طوال حياته الطويلة عن إلقاء أضواء الوعي الواضح عليها وتجميع خيوطها وعناصرها في نسق حي شامل.
ثالثا: معوقات الوعي بال «ليس-بعد»
يجد هذا الوعي مقاومة شديدة في محاولة الظهور إلى النور، كما يختلف نوع هذه المقاومة وأسلوبها؛ فالموضوعات أو الرغبات المكبوتة - بلغة علم النفس التحليلي - لا تجد طريقها إلى الوعي، لأن ثمة مقاومة تدفعها دائما إلى ما تحت الوعي، وما يتسرب منها يأتي في شكل أحلام ليلية. ويجتهد التحليل النفسي في تفسير هذه المقاومة وتحديدها لرفع موضوعات ما تحت الوعي إلى مستوى الوعي. ولما كانت هناك مقاومة للاوعي فهناك كذلك مقاومة للوعي بال «ليس-بعد». ولكنها ليست مقاومة داخلية، كما هو الحال في طبقة الوعي الباطن، بل ليست موجودة في الذات الإنسانية على الإطلاق. إن ما يعوق الوعي بال «ليس-بعد» عوائق خارجية، إذ تعيش الأفكار في تجانس وتوافق طالما بقيت في نطاق الأفكار والخطط، ولكنها لا تكاد تخطو خطوة واحدة في اتجاه الواقع حتى تبدأ الصعوبة؛ صعوبة الإقدام على الجديد.
47
ويرى بلوخ أن النواة الناصعة للوعي تحيط بها هوامش معتمة لا تمتد إلى الماضي فحسب، وإنما تمتد كذلك إلى المستقبل، وبينما يهبط اللاوعي عند فرويد إلى الأعماق المظلمة تحت «عتبة الوعي»، فإن اللاوعي الذي يقصده بلوخ ويسميه ما قبل الوعي يعلن عن نفسه - كتباشير الفجر - في أعلى الهامش المظلم المحيط بالوعي، ويفاجئ الإنسان ويستحوذ على انتباهه في أحلام اليقظة على وجه الخصوص، وهذا الذي يسبق الوعي - من هواجس ورؤى وخواطر - لا يجد الاهتمام الكافي، وربما يلقى مقاومة شديدة. ولكن هذه المقاومة تختلف تمام الاختلاف عن المقاومة التي تقابل بها الرواسب والعقد «المكبوتة» من قبل الوعي وما فوق الوعي في التحليل النفسي، كما أنها - أي هذه المقاومة - تتم أصلا على مستوى غير سيكولوجي، فالمريض النفسي أو العصابي يهرب من الوعي الواضح بالمكبوت في لاوعيه الباطن بحيث يكون العلاج في هذه الحالة هو الارتفاع به إلى مستوى الوعي الذاتي الواضح، أما المقاومة التي يلقاها ما قبل الوعي فمن نوع آخر ولها أسباب أخرى.
अज्ञात पृष्ठ