فلون الزهرة وتكوينها وائتلاف أوراقها على نحو ما من الائتلاف، كل هذه أشياء يعللها علم النبات تعليله الموضوعي الخالص الذي لا يثير إعجابا ولا شعورا بالجمال، وإنما يحقق معرفة، والفنان هو الذي يجد في هذا اللون، وفي هذا التكوين، وفي هذا النوع من ائتلاف الأوراق، شيئا آخر غير التعليل الموضوعي العلمي يخلعه عليها من جهة، ثم يسترده منها من جهة أخرى فينشئ بينها وبينه صلة هي الحركة الأولى من حركات الفن.
وقل مثل ذلك في الشجرة القائمة على شاطئ النهر، ومن حولها الشجيرات والأزهار، والعشب قد انبسط على الأرض، والطير قد استقرت على الغصون متأرجحة متغنية، على ما في هذا المنظر أو المناظر كلها من اختلاف وائتلاف؛ فهي في نفسها ليست شيئا إذا لم يعرفها الإنسان، وهي في نفسها إذا عرفها الإنسان ليست شيئا جميلا إذا لم ينظر إليها إلا هذه النظرة الموضوعية التي ترد الظواهر إلى أصولها وأسبابها، ولكنها تصبح شيئا ذا خطر، تصبح شيئا يعني الفن حين ينظر إليها الإنسان نظرته الذاتية، فيجد فيها ما يثير عواطفه المختلفة وأهواءه المتباينة.
فالإنسان إذن حريص على أن يزيل عن الكائنات ما يحجبها عن نفسه وقلبه وعقله وضميره؛ فحركته الفنية الأولى هي التجريد أو التعرية أو إزالة الحجب ورفع الأستار، وهو إنما يصنع هذا لأنه يريد أو لأنه يشعر بالحاجة الملحة إلى أن يرى نفسه كائنا أساسيا لا يستغني عنه العالم لتظهر دقائقه وتتجلى أسراره.
الأمر الثاني: حاجة الإنسان بطبعه إلى أن يشرك نظراءه فيما يجد من حس وشعور، وما يستكشف من فكرة ورأي؛ فهو لا يجرد الكائنات لنفسه وحدها، وإنما يريد أن يحس غيره مثل ما يحس، وأن يرى غيره مثل ما يرى، وهذه هي المرحلة الثانية من مراحل الفن؛ فالإنسان يكتب لأنه يريد أن يجرد العالم، ولأنه يريد أن يشرك غيره في النظر إلى هذا العالم المجرد العريان.
وتجريد الإنسان للعالم عمل حر يأتيه الإنسان عن إرادة وعمد، وإشراك النظراء في النظر إلى هذا العالم المجرد عمل حر أيضا يأتيه الإنسان عن إرادة وعمد؛ فالإنتاج الأدبي - في رأي جان بول سارتر - مظهر من مظاهر الحرية، أما القارئ فهو يستجيب لدعاء الكاتب؛ لأن كتابة الكاتب ليست إلا ادعاء أنه يحس ويشعر، ويدعو غيره إلى أن يشاركه في الحس والشعور.
وهنا يلح جان بول سارتر فيما قدمت الاعتراض من أن الكاتب لا يكتب لنفسه؛ ذلك أنه حين يكتب لا يرى ما يكتبه إلا شيئا فشيئا بمقدار ما تتصور كلماته في الصحف؛ فهو لا يتنبأ بآخر ما يكتب، وإنما يسعى إليه سعيا قد تصوره جملة قبل أن يكتب أو لم يتصوره، ولكنه على كل حال يجد لذة هي لذة الكتابة لا لذة القراءة.
وهو من أجل هذا يشعر بأن عمله ناقص لا يتم ولا ينتهي إلى غايته إلا إذا أعانه القارئ على إتمامه والوصول به إلى غايته؛ فإذا استجاب القارئ للكاتب تم عمله، وإذا لم يستجب له ظل هذا العمل ناقصا مبتورا.
والقارئ لا يستجيب للكاتب مكرها، وإنما يستجيب له حرا مريدا عامدا إلى هذه الاستجابة، والقارئ لا ينشئ عملا مستقلا عن الكاتب، فلولا الكاتب ما قرأ القارئ؛ فهو إذن يعاون الكاتب ويتممه بأدق معاني كلمة المعاونة والإتمام؛ ذلك أن الكاتب لا يودع الصحف كل ما في نفسه لأنه لا يستطيع ذلك ولا يريده، وإنما هو يرسم ما في نفسه رسما تخطيطيا يرشد به القارئ إلى أن يملأ ما بين الخطوط .
فالقارئ إذن ليس قابلا فحسب، ولكنه قابل من جهة وفاعل من جهة أخرى، أمره في ذلك كأمر الكاتب بالضبط؛ لأن الكاتب قابل حين يتأثر بالعالم الخارجي، وفاعل حين يعيد إنشاء هذا العالم الخارجي.
والقارئ متأثر حين يتلقى الرسم التخطيطي الذي دعاه الكاتب إلى النظر فيه، وهو منشئ حين يملأ ما بين الخطوط، ويتمم ما بدأ الكاتب من الرسم والإنشاء.
अज्ञात पृष्ठ