فمن التشاؤم الحديث ما يحاول عرض الحياة الإنسانية الواقعة كما هي، يصورها في أبشع صورها، ويعرض عنها لأشياء لم يكن الأدب يعرض لها من قبل إلا عند القدماء من اليونان والرومان والعرب، وقد كنا نظن أن الأدب العالمي الحديث قد استطاع أن ينقي نفسه من هذه الأوضار ويرتفع بها عن هذه النقائص، وكنا نلتمس للقدماء العذر، ونجد هذا العذر في أنهم كانوا قدماء لم يبلغوا من الحضارة ومن ترف العقل والشعور ما بلغه المحدثون.
ولكن الأدباء المتشائمين في هذا العصر يريدون أن يصوروا الواقع، فلا يصدهم عن تصوير هذا الواقع شيء، ولا يجدون في صدورهم حرجا من أن يصوروا أشياء يريد الإنسان المتحضر عادة أن يخفيها على نفسه، ويكفي أن ينظر القارئ في آثار جان بول سارتر الفرنسي، وفي آثار ميلر الأمريكي، ليبغض هذا النوع من الأدب الذي لا يعتمد على فن مترف، ولا يتجه إلى ذوق مرهف، وإنما هو أدب غليظ يصور حياة غليظة، ويتجه إلى عقول لا تحفل بالذوق، ولا بالفن، ولا بالشعور.
وهناك أدب متشائم ولكنه رفيع؛ لأنه لا ينحط إلى تصوير الطبيعة الغليظة، ولا ينزل إلى تصوير الغرائز الجامحة، وإنما يصور الواقع من حياة الناس في غير مظاهرها البشعة، كما يصورها غفلة الغافل، وعقل العاقل، وموقف هذا وذاك من المشكلات الفلسفية والسياسية والاجتماعية العليا.
وأنت تجد هذا عند جان بول سارتر نفسه، وإن كان يؤذيك ما تفجأ به بين حين وحين من هذا الأدب الغليظ الذي تزور عنه النفس وينبو عنه الذوق، وأنت تجد هذا عند ألبير كامو حين يعرض عليك تشاؤمه قصصا وتمثيلا وفلسفة، وأنت تجد هذا عند كفكا حين يعرض عليك تشاؤمه في قصصه الرمزي الغامض الرفيع، وفي خواطره التي تملأ يومياته فلسفة وفنا.
فهذا هو مظهر الاختلاف في الأدب الأسود الحديث؛ فأما مظهر المقاومة لهذا الأدب الأسود فيشهد من يقرأ الصحف والمجلات الفرنسية، وربما كان من أطرف أشكاله هذا الحوار الذي اتصل بين الشيوعيين، أو قل بين اليساريين من جهة، والمعتدلين من جهة أخرى، حول آثار كفكا أتحرق أم لا تحرق، وواضح جدا أن الإحراق هنا ليس إلا رمزا؛ فالمسألة التي يختلف فيها الأدباء الفرنسيون واليساريون والمعتدلون هي هذه: أتباح قراءة كفكا للشباب أم تحظر عليهم؟
فأما المعتدلون فيؤثرون الحرية على كل شيء ويثقون بقدرة الشباب على مقاومة ما يشيع في آثار هذا الكاتب من اليأس الذي يثبط الهمم، ويفل العزائم، ويميت القلوب، وقد يدفع إلى الانتحار. وأما اليساريون فيرون أن الحياة أمل كلها، وأن تحقيق الآمال محتاج إلى الإيمان لا إلى الشك، وإلى الإقدام لا إلى الإحجام، وإلى العزم الصادق والهم البعيد، وهم من أجل ذلك يشفقون على الشباب من هذا الأدب الأسود الذي يجعل الحياة كلها سوادا.
وواضح كذلك أن الكلمة الأخيرة ستكون للحرية دائما؛ فلم تفلح قوة من القوى في محاربة الرأي، ولم تستطع النار مهما تكن مضطرمة شديدة الالتهاب أن تحرق كتابا، وهي قد تحرق ورقا وحبرا، ولكن الدخان الذي يثور من هذا الحريق يضاعف الإغراء بالقراءة، ويملأ القلوب فتونا بهذه الكتب التي حرقت ولكن لم تمس روحها النار.
ولست أعرف إغراء بالأدب أقوى من محاربته، ولست أعرف إحياء للرأي أقوى من اضطهاده؛ فلن يحرق كفكا، ولن تحرق آثار جان بول سارتر، وإن كانت آثار هذين الكاتبين قد دفعت بعض الشباب إلى الانتحار، ودفعت بعضهم إلى اقتراف الجرائم، ولن يكون القرن العشرون شرا من القرن الثامن عشر والتاسع عشر؛ فالناس يعلمون أن قصة ڤرتر قد دفعت غير واحد من الشباب إلى الموت، ولكنها لم تحرق، ولم تحظر على القراء، والشباب يقرءونها الآن أو يشهدونها في ملاعب التمثيل، فلا تلقي في نفوسهم يأسا، ولا تحبب إليهم الموت، وإنما ترسم على ثغورهم ابتسامات لعلها لا تخلو من بعض السخرية.
وكذلك يقاوم الأدب الأسود الحديث كما كان يقاوم الأدب الأسود القديم.
ولكنك توافقني بعد هذا الحديث الذي طال حتى بلغ الإملال على أن التشاؤم الأوروبي الحديث كغيره من التشاؤم القديم، قد أنشأته ظروف متشابهة فخرج متشابها في أصوله وصوره ونتائجه وموقعه من نفوس الناس.
अज्ञात पृष्ठ