هذا الشعور العلائي هو الذي وجده كفكا وصوره في كثير من آثاره تصويرا مشابها أشد المشابهة لتصوير أبي العلاء في اللزوميات، وفي الفصول والغايات، ولكنه لم يلزم نفسه دارا ضيقة محدودة كما فعل أبو العلاء.
فأنت ترى من هذا كله أن التشاؤم الفلسفي في الأدب بعيد كل البعد عن أن يكون ظاهرة موقوتة بعصر من العصور، أو مقصورة على جيل من الأجيال، أو محصورة في أمة من الأمم، وأنت ترى أيضا أن ما يسميه الأوروبيون الآن أدبا أسود ليس له من الجدة والطرافة هذا الحظ الذي يتصوره بعض الكتاب الغربيين؛ فقد تشاءم اليونان، وتشاءم الرومان، وتشاءم اليهود، وتشاءم العرب.
ولست أشك في أنك لا تكاد تدرس أدبا من الآداب على اختلافها وعلى اختلاف العصور والبيئات والأجيال إلا رأيت فيه ظلا من التشاؤم قويا أو ضعيفا، ممدودا أو مقبوضا، يختلف هذا كله باختلاف ما لأصحاب هذا الأدب من تعمق الثقافة، ومحاولة لحل المشكلات الفلسفية الخالدة.
ومصدر هذا فيما يظهر أن الفطرة الإنسانية مركبة من عناصر مختلفة يمتاز منها عنصران متناقضان؛ أحدهما: طموح لا حد له يدفعه إلى الأمام.
والآخر: قصور لا حد له يرده إلى وراء أو يقفه في مكان لا يعدوه.
فهو دائما موضوع للنزاع بين هذين العنصرين؛ فإن كان غافلا أو محدود الثقافة قبل الحياة كما هي؛ فاندفع حين تدفعه الظروف، ورجع أدراجه حين تضطره إلى الرجوع، ووقف مكانه حين تكرهه على الوقوف، وإن كان ذكي القلب، نافذ البصيرة، دقيق الحس، بحث واستقصى، وساءل عن مكانه من هذين العنصرين اللذين يتجاذبانه، وساءل كذلك عن حريته أو عن حظه من الحرية التي تتيح له إن أراد أن يستجيب للعنصر الذي يقوده إلى أمام، أو أن يستسلم للعنصر الذي يرده إلى وراء، أو أن يثور على العنصرين جميعا فيمضي كيف يشاء وحيث يشاء؛ ولا يكاد يسأل عن هذا الحظ من الحرية حتى يدركه التشاؤم؛ لأنه يرى أن هذه الحرية محدودة بحدود لا سبيل إلى تجاوزها، منها ما يأتي من الطبيعة، ومنها ما يأتي من الجماعة، وهو قد يحاول الثورة على هذه الحدود أو تلك، ولكنه يرد آخر الأمر مخذولا مدحورا.
وقد لاحظ أبو العلاء كما لاحظ المتشائمون من قبله ومن بعده أنه دفع إلى الوجود دون أن يستأمر أو يستشار، وأنه يدفع إلى الموت دون أن يستأمر أو يستشار أيضا؛ فسأل نفسه وسأل غيره، كما سأل المتشائمون من قبله ومن بعده: لماذا دفع إلى الحياة؟ ولماذا يدفع إلى الموت؟ وما الذي يراد منه بين الحياة والموت؟ وما الذي يراد به بعد أن يموت؟ وهو لم يتلق على هذه الأسئلة جوابا يرضي عقله ويشفي حاجته إلى الوضوح، فوقف موقف الحائر الذي يضيق بكل شيء، ويضيق بنفسه قبل كل شيء؛ لأنه لا يفهم علة ولا غاية لشيء من الأشياء.
وقد أراد أبو العلاء أن يمتحن حريته ليعرف أحق هي أم باطل؟ ففرض على نفسه ألوانا من الشدة المادية والفلسفية والفنية، وخيل إلى نفسه أنه إن احتمل هذه الشدة وصبر لها كما ينبغي فقد يدل ذلك على أن له من الحرية حظا، ولكنه لم يكد ينفق أعواما في احتمال هذه القيود التي فرض على نفسه وتمرن على احتمالها، حتى شك في حريته، ثم استيأس منها، ثم اعتقد أنه دفع إلى هذه القيود بنفس القوة القاهرة التي دفعته إلى الحياة، والتي تدفعه إلى الموت.
وقد يتاح لي، وقد يتاح لغيري من الدارسين لأبي العلاء، أن نستقصي أصول فلسفته المتشائمة، وأن نوازن بينها وبين فلسفة المتشائمين المحدثين، وأكبر الظن أننا سنصل إلى نفس النتيجة التي وصلنا إليها حين وازنا بين الفلسفة العلائية المتشائمة، وبين فلسفة المتشائمين القدماء، وهي أن المحدثين لم يكادوا يزيدون على أصول الفلسفة العلائية شيئا، ولكنهم زادوها تفصيلا وتوضيحا، كما أن أبا العلاء لم يزد على فلسفة المتشائمين القدماء شيئا، وإنما وضح منها الغامض، وفصل منها المجمل، أتيح له من الثقافة والتجربة ما لم يتح للذين سبقوه، كما أتيح للمتشائمين المحدثين من الثقافة والتجربة ما لم يتح لأبي العلاء.
فالمشكلات التي تدفع إلى التشاؤم واحدة على اختلاف العصور والأجيال والبيئات، ولكن الوسائل التي تتخذ لمواجهتها ومحاولة حلها، هي التي تختلف باختلاف حظ العقل من الرقي ونفوذه إلى أسرار الطبيعة ودقائق الحياة، والغريب أن هذه المشكلات لم تزل قائمة لم تجد لها الإنسانية حلا على اختلاف ما أتيح للإنسانية من رقي العقل، وتقدم العلم ، واتساع المعرفة، واختلاف وسائل البحث والاستقصاء.
अज्ञात पृष्ठ