أقامت صاحبتنا في هذه الدار، ونظمت استقبالها لأعلام فرنسا مرتين في الأسبوع يتناولون عندها العشاء، ويسمرون إلى قريب من آخر الليل، ويتحدثون فيما شئت من أدب وعلم، ومن فلسفة وفن، ومن سياسة وحرب، ولكنها لم تكن تحب أن تشارك الأدباء والعلماء والفلاسفة فيما كان يجري بينهم من حوار؛ لأنها كانت تكره الأدب والعلم، وكانت تكره الفلسفة خاصة، وتضيق بها ضيقا شديدا، وكانت تعنى بأشخاص زائريها أكثر مما تعنى بما كان عندهم من علم، أو أدب، أو فلسفة. كانت مسرفة في الشك، وكان إسرافها في الشك يصرفها عما كان يكلف به الناس في عصرها من هذه الفلسفة الحرة الغالية التي كانت تعمل في الهدم، أكثر مما كانت تعمل في البناء.
وتتقدم السن بصاحبتنا وقد مات زوجها وأصبحت حرة حتى أمام القانون، وقد جدت في تنظيم حياتها، وانصرفت عن اللهو والمجون إلى حياة الجد ولذة الحديث والسمر، ولكنها على ذلك اتخذت لها خليلا عاشت معه عيشة الأزواج، لم تكن تحبه ولكنها لم تكن تكرهه، إنما كانت تستعين به على احتمال الحياة، كما كانت تستعين بكل شيء على احتمال الحياة، فقلما عرف تاريخ الآداب امرأة ضاقت بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة، بل قلما عرف تاريخ الآداب رجلا ضاق بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة. كانت متشائمة كأشد ما يكون التشاؤم، وكانت تردد هذه الكلمة التي تقربها من أبي العلاء وهي: إن شر ما ابتلينا به من الشقاء إنما هو الحياة.
وكانت تستعين بإسرافها في المجون والعبث، ثم في الجد والإنتاج الأدبي على احتمال الحياة، ولعلها لم تله، ولم تعبث، ولم تجد إلا لتنسى الحياة وتنصرف عن نفسها، فقد كانت تكره العزلة وتخافها خوفا شديدا، فكانت تسهر الليل، ولا تنام إلا قليلا في النهار، وتنفق وقتها قارئة أو لاهية، أو مستقبلة، ولا تكاد تبلغ الخمسين من عمرها حتى يتم الله محنته لها، وحتى يأخذها الشقاء من كل وجه، فهذا حجاب رقيق يلقى شيئا فشيئا بينها وبين النور، ثم يتكاثف هذا الحجاب قليلا قليلا، وهي تحس ذلك وتجزع له وتلجأ إلى الأطباء والسحرة، والمشعوذين، فلا تجد عند أحد منهم شيئا، والحجاب يتكاثف ويتكاثف، حتى يستحيل إلى سور صفيق يقطع كل سبب بينها وبين الضوء، وإذا هي عمياء.
أفتظن ذلك قد غير من سيرتها أو اضطرها إلى شيء من القصد والاعتدال؟ ليس من شك في أنها قد حزنت لذلك حزنا عميقا ولكنه حزن أضيف إلى حزن. حفظته في أعماق نفسها ولم تظهر منه للناس شيئا، إنما كتبت إلى بعض أصدقائها من أعلام الأدب والسياسة تنبئهم بهذه الكارثة، فمنهم من رق لها كڤولتير، ومنهم من عبث بها كمنتسكيو، وكلهم قد مضى في إكبارها، والاختلاف إليها، لم يغير من سيرته شيئا كما لم تغير هي من سيرتها شيئا، فظلت مائدتها تقام يوم الاثنين والأربعاء من كل أسبوع، وظلت تختلف إلى الأوبرا والملاعب، وتشترك في الحفلات كما كانت تفعل من قبل، واتخذت لها رفيقة فتاة من أهل الأقاليم ولدت في أسرة شريفة ولكن مولدها لم يكن شرعيا، وكانت هذه الفتاة مدموازيل لسبيناس ذكية بارعة الذكاء، حساسة قوية الحس، مثقفة واسعة الثقافة، وكانت المودة بينها وبين سيدتها قوية متينة، دامت عشر سنين لم يكدر صفوها مكدر، ثم لاحظت صاحبة الدار أن زوارها أو فريقا منهم إذا انصرفوا عنها لم يخرجوا، وإنما أتموا سمرهم عند الفتاة، فغاظها ذلك وكانت القطيعة بين الصديقتين، ولكنها لم تكن قطيعة مألوفة إنما كانت حدثا من أحداث العصر في باريس، انقسم له الأدباء والفلاسفة انقساما عظيما، تعصب بعضهم للشيخة وتعصب بعضهم للفتاة، وكانت كثرة الفلاسفة وعلى رأسهم دالمبير
d’Alembert
من أنصار الفتاة وكانت الأرستقراطية المعتدلة والمحافظة من أنصار الشيخة.
ثم استأنفت الحياة المنظمة طريقها عند صاحبتنا، واتخذت الفتاة لها ناديا أو صالونا أدبيا، واشتدت المنافسة بين هاتين المرأتين، وصاحبتنا الآن في الثامنة والستين من عمرها قد فقدت البصر منذ ثمانية عشر عاما، وعظمت مكانتها في أوروبا حتى لم يكن عظيم من الأوروبيين يزور باريس إلا رأى حقا عليه لنفسه ولمكانته أن يلقاها ويتحدث إليها، وفي أكتوبر من هذه السنة 1765 زار باريس رجل من عظماء الإنجليز هو هوراس ولبول
Horace Walpole . كان أبوه روبير ولبول
Robert Walpole
وزيرا وكان هو عضوا في البرلمان، فلما مات أبوه ترك السياسة وانصرف إلى الأدب والفن، وكان في الخمسين من عمره، ولم ير هذا الرجل بدا من أن يزور صاحبتنا هذه ويغشى ناديها كما كان يغشى أندية الأدب والسياسة كلها في باريس، فلما رأى هذه الشيخة أنكرها، وكتب إلى صديق له يصفها بأنها عجوز عمياء فاجرة العقل، على أن وقتا قصيرا لم يمض على هذه الزيارة حتى تغير الأمر بين هذا الإنجليزي وهذه الفرنسية، وتكررت الزيارة فوقع الإنجليزي من نفس هذه المرأة موقعا غريبا رد إليها الشباب بل رد إليها الصبا، فأحبته، وأنا أعني بهذه الكلمة معناها، أحبته وقد أشرفت على السبعين، ولم يرفض هو هذا الحب، ومن المحقق أنه لم يلق هذا الحب بمثله، ولكنه أضمر لهذه المرأة مودة قوية صادقة لم تغيرها الأيام، وأظهر بها إعجابا لا حد له، واتصلت أسباب المودة والحب بينهما ما أقام في باريس، فلما رجع إلى لندرة اتصلت بينهما الكتابة، وكان يأتي إلى باريس من حين إلى حين ليرى حبيبته أو ليرى عاشقته، أو ليرى يتيمته، كما كانت تسمي نفسها، فقد كانت تسمي نفسها يتيمة وتسميه هو وصيا، وكان هو يسميها ابنته الصغيرة، وكان الحنان بينهما كأقوى ما عرف الناس من الحنان بين المحبين، وكانت نتيجة هذا الحب أربعة مجلدات نشرت بعد موتهما وفيها ثمانمائة من الرسائل التي اتصلت بينهما، وهي آيات من آيات الأدب الفرنسي لا أكثر ولا أقل، فيها تصوير لهذه العواطف النادرة، الشاذة، التي لم يألفها الناس والتي تملأ قلوبهم مع ذلك رحمة وبرا، وإشفاقا، وعطفا. وما رأيك في هذه الضريرة التي نيفت على السبعين والتي تكتب لصاحبها رسائل حب وغرام كرسائل الفتيات اللاتي لم يتجاوزن العشرين، على أن صاحبها كان إنجليزيا، ومعنى ذلك أنه كان يخاف السخرية، والمزاح، وكانت الرقابة مضروبة على الرسائل في إنجلترا ذلك الوقت، فكان صاحبنا مروعا دائما يخشى أن تفض رسائل صاحبته، وأن يعرف ما فيها من هذا الحب الغريب، فيتندر الناس به في القصر وفي الأندية، فكان يرد صاحبته إلى القصد في تصوير عواطفها الحارة، وكانت هي تخاصمه في ذلك، وكان الأمر يفسد بينهما أحيانا، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى خير ما كان، وانقطعت رسائله عنها مرة فكتبت إليه: يظهر أنك لا تريد أن تظهرني من أمرك على شيء، فاحذر أيها الوصي أن تصبر على ذلك فإني خليقة إن فعلت، أن أرسل إليك سكرتيري وأن أكلفه الإسراع إلى لندرة وآمره أن يلزمك وأن يرسل إلي بأنبائك، وأن يعلن إلى الناس جميعا وفي كل مكان أني يتيمتك، وأنك وصيي، وأني أحبك، وأن يهيئ لي عندك مكانا فألحق به، وأعلن إلى الناس جميعا ما بيننا، لا أخاف فضيحة مهما تكن، فاختر لنفسك بين الفضيحة والكتابة إلي.
अज्ञात पृष्ठ