فهناك امرأة ترى عشيقها وأبا ابنيها يخطب ابنتها الشرعية ويتزوجها، فدع كرامة هذه المرأة ودع شرفها، وقف عند الصراع العنيف بين حب المرأة لخليلها وحبها لابنتها الشرعية، وحبها لابنتها الأخرى، وشعورها بهذا الإثم المنكر وما نشأ عنه من تعقيد بغيض في حياة أبنائها، وعجزها عن أن تقول في هذا كله شيئا، أو أن تقاوم هذا كله بشيء، وإذعانها لحكم القضاء الذي لا مرد له ولا منصرف عنه، وعذاب نفسها المتصل حين ترى ابنتها زوجا لخليلها وزوجا لأبي أخويها.
ثم قدر موقف الفتاة نفسها من هذا كله؛ فقد كانت تشعر به شعورا غامضا، ثم جعل هذا الشعور يتضح شيئا فشيئا حتى عرفته الفتاة معرفة دقيقة.
فقدر موقفها من أبيها الذي أصبح لأختها زوجا، ثم قدر موقفها حين ماتت أمها، وحين انتقلت إلى قصر الكونت دي فيشي، فعاشت بين أختها وأبيها، ثم قدر موقفها حين رزقت أختها الولد فأصبح أبناء أختها لها إخوة قد منحهم الحياة أب واحد، وهي تعيش في هذا كله، وتحتمل أثقال هذا كله، وتألم من أعقاب هذا كله، ولا تستطيع أن تجهر منه بشيء أو أن تنكر منه شيئا، أو أن تدفع عن نفسها من آثاره شيئا.
قدر هذا كله وحدثني أيهما أبرع في التصور، وأقدر على الابتكار، وأمهر في ابتداع المأساة: خيال الكتاب والشعراء أم خيال الحوادث والظروف؟
مهما يكن من شيء فقد أنفقت الفتاة في قصر أبيها وأختها أياما طوالا ثقالا، ثم أرادت الظروف أن يزداد بؤسها نكرا حين تقدم إخوتها وأبناء أختها في السن، فقامت منهم مقام المربية المؤدبة، وقد كانت الفتاة كريمة النفس، نبيلة القلب، نقية الطبع، فأحبت هؤلاء الأطفال حبا شديدا، وأخلصت في تربيتهم وتأديبهم أتم الإخلاص وأمتنه، واقتضت ظروف الحياة في عام من الأعوام أن يرتحل الزوجان عن القصر في غيبة تطول بعض الشيء، فقامت هذه الأخت الخالة من إخوتها مقام الأم، وشملتهم من العطف والرعاية والحنان بما حمل الأبوين على شكرها حين عادا إلى القصر، ولكن السعادة الخالصة لم تقدر للناس، وازدراء المنافع المادية لم يتح لكثير منهم، والارتفاع عن الظلم والطغيان والبطر لم يقدر إلا لأفراد يحصون بين حين وحين؛ فقد كان الزوجان يضيقان بهذه الفتاة على رغم وداعتها، وسماحة نفسها، ونقاء ضميرها، تضيق بها أختها لمكان هذه الأخوة الآثمة، ولمجرد التفكير في أن هذه الأخوة قد تثير اختلافا حول المنافع المادية في يوم من الأيام، ويضيق بها أبوها لمكان هذه الأبوة الآثمة، ولحرصه على المنافع المادية أيضا بالقياس إلى نفسه وإلى أبنائه، ولهذا الحرج الثقيل الذي لم يكن بد من أن يجده بين حين وحين كلما فكر في أن قصره يظلل أختين إحداهما امرأته والأخرى ابنته، ولم تكن الفتاة أقل ضيقا بهذه الحياة المنكرة من هذين الزوجين، يدفعها إلى هذا الضيق شعورها بهذا الإثم الذي يحيط بها والذي لا تحمل أوزاره؛ لأنها لم تقترف منه شيئا، وشعورها بهذا الحق المضيع، والكرامة المهدرة بين قوم كان من الحق عليهم أن يشملوها بالحب والعطف والحنان. أب من الحق عليه أن يبر ابنته وهو ينكرها ويظلمها، وأخت من الحق عليها أن تؤثر أختها بالمودة، وهي تعقها وتستأثر من دونها بالخير كله، وتصرف عنها قلب أبيها، وتتخذها خادما أو شيئا يشبه الخادم، ومن أجل هذا كله أخذ الأمر يفسد شيئا فشيئا بين الزوجين وبين هذه الفتاة، وقد احتملت الفتاة ما استطاعت أن تحتمل، فلما لم تجد إلى الصبر سبيلا فكرت وقدرت، وأزمعت أن تخرج من هذا السجن البغيض.
وكان أمامها طريقان للخروج من هذا السجن: إحداهما يسيرة سهلة ولكنها بغيضة إلى نفسها أشد البغض مناقضة لطبعها أشد المناقضة، وهي الطريق إلى الدير لتصبح راهبة، وما أكثر الراهبات اللاتي دفعن إلى الدير لا تأثرا بالدين ولا تهالكا على التقوى، ولكن نفتهن ظروف الاقتصاد، أو ظروف الاجتماع عن الحياة العاملة، ولكن الفتاة لم تكن تطيق التفكير في الدير ولا في الانقطاع للدين؛ فقد كانت حياتها أقوى وأغزر وأخصب وأكثر بعدا عن التصوف من أن تعدها لهذا الانزواء الخامل الجدب في أعماق الدير، أما الطريق الثانية فلم تكن ميسرة ولا خالية من العقاب، فقد كانت الفتاة تود لو استطاعت أن تستقل، وتنعم بحياة حرة لا تخضع فيها لأحد، ولكن كيف السبيل إلى ذلك وإيرادها أضيق من أن يسع حاجاتها ومطالبها؟ أليس من الممكن أن يعينها أخوها ذاك الذي يعمل ضابطا في الجيش والذي أظهر حبا لها وعطفا عليها؟ فلتعتمد عليه إذن ولتكتب إليه، ولكنه يرد عليها مخيبا أملها، لا بخلا ولا قسوة، ولا تعمدا لإيذائها، ولكن ظروفه لا تسمح له بأن يبذل لها المعونة التي ترجوها، وهو من أجل ذلك يتقدم إليها في ألا تحاول هذا الاستقلال ولا تطمع فيه.
وفي أثناء ذلك تزداد الحياة ثقلا في القصر ويزداد الخلاف نكرا بين الأختين، وتلم بالقصر زائرة ذات خطر، تواسي الفتاة وتسليها أول الأمر، وتجد لها مخرجا من ضيقها وفرجا من حرجها آخر الأمر، وهذه الزائرة الخطيرة هي مدام دي ديفان.
ومدام دي ديفان ليست في حقيقة الأمر إلا عمة الفتاة، نشأت كما نشأ أخوها في هذا القصر ثم اختلفت بهما أسباب العيش، فتزوجت من المركيز دي ديفان، ثم فرقت بينهما الأحداث، فسلكت في باريس وفي قصر الوصي على العرش مسالك الريبة والعبث، واستمتعت بالحياة الماجنة وقتا ما، ثم ثابت إلى نفسها وراجعت أمرها وجددت سيرتها، واتخذت لها رفيقا خليلا من رجال القضاء، ومضت تدبر حياتها في حزم وجد، حتى اكتسبت لنفسها في باريس مركزا ممتازا، ثم اتخذت لنفسها دارا ملحقة بدير من الأديار في باريس، وجعلت تستقبل في هذه الدار أعلام الأدب والفلسفة والسياسة، حتى أصبح «صالونها» من أهم المراكز الثقافية الممتازة في العاصمة الفرنسية، وقد توثقت الصلات بينها وبين الأعلام الممتازين في الحياة الفرنسية، حتى أصبح اسمها علما من الأعلام في الحياة الأدبية الفرنسية وفي التاريخ الأدبي الفرنسي بوجه عام، وقد جعلت كلما تقدمت بها السن تشعر بشيئين يدفعانها إلى التشاؤم دفعا شديدا: أحدهما مادي وهو هذا الضعف الذي أخذ يصيب بصرها شيئا فشيئا ويصورها لنفسها ضريرة بعد وقت طويل أو قصير، والآخر معنوي وهو هذا البغض لأوضاع الحياة، والشك في قيمتها، والإنكار لهذه القيمة آخر الأمر، حتى انتهت إلى مثل ما انتهى إليه أبو العلاء حين قال:
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد
अज्ञात पृष्ठ