الساحرة المسحورة
فتح الحب العابس لها باب الدنيا، وفتح الحب الجاد لها باب الآخرة، فسلكت بين هذين البابين طريقا عسيرة بثت فيها العقاب واكتنفتها المصاعب، وملأتها الآلام، ولم تخل مع ذلك من لذة قليلة، وبهجة ضئيلة، ومتاع عقلي متصل، فلما اختطفها الموت قدر الناس أنها قد أورثت بعض القلوب والعقول حزنا عظيما وبؤسا ممضا، وأصبحت حديثا من أحاديث التاريخ الأدبي ستحفظه ذاكرة الأيام وقتا يقصر أو يطول، ثم يمسه النسيان قليلا قليلا حتى يمحوه في يوم قريب أو بعيد، كما محا كثيرا من الأحاديث لكثير من الناس في كثير من العصور وفي كثير من البلاد، ولكن القرن التاسع عشر لم يكد يتقدم قليلا حتى تبين أنها لم تترك للناس ذكرا فحسب، وإنما تركت لهم آية أدبية من أروع آيات الأدب، لا في وطنها الفرنسي وحده، ولا في القرن الثامن عشر وحده، بل في جميع الأوطان المتحضرة، وفي جميع العصور التي عنيت فيها الإنسانية بالإنتاج الأدبي الرفيع.
هذه هي مدموازيل دي لسبيناس التي أريد أن أحدثك عنها في هذا المقال، والتي ولدت سنة 1732 وتوفيت سنة 1776. لنفرغ من ذكر الأرقام التي يظهر أن المؤرخ لا يكون مؤرخا إلا إذا حفظها وحققها، واستقصى ما يتصل بها من الأحداث والخطوب.
وأحب أن تعلم منذ الآن أني لا أريد في هذا الفصل أن أكون مؤرخا للأدب الفرنسي، فلست من تاريخ هذا الأدب في شيء، وإنما قرأت عن هذه الآنسة في بعض ما أقرأ، فأعجبني حديثها، فحاولت أن أتعمق هذا الحديث فازددت به إعجابا، وجعلت لا أمضي في استقصائه إلا دفعت إلى مزيد من التعمق، حتى أنفقت في ذلك شهرا وبعض شهر، ولعلي أغالط نفسي بعض المغالطة؛ فقد أنفقت في ذلك شهرين، ولم أفرغ منه بعد على كثرة الكتب والمجلات التي تجتمع بين يدي، وتنتظر أن أفرغ لها ساعة من ليل أو ساعة من نهار، وأنا مع ذلك معرض عنها مصر على هذا الإعراض؛ لأن أحاديث هذه الآنسة ما زالت تدعوني، وتلح في الدعاء، ولأن هذه الأحاديث لا تكاد تنقضي.
لا تنتظر مني إذن بحثا عن التاريخ الأدبي الفرنسي في القرن الثامن عشر، ولا تحقيقا للحوادث، ولا تحليلا للنتائج والمقدمات؛ فما أحب أن أعرض لشيء من ذلك الآن، وما أكره أن أعرض له في يوم من الأيام، ولعلي أن أخصص كتابا أعرض فيه حياة هذه الآنسة عرضا مفصلا دقيقا، فأما في هذا الفصل فليكن تحدثي إليك عنها سهلا سمحا لا يكلفك ولا يكلفني مشقة ولا عناء، وإنما نرسل فيه النفوس على سجيتها، ونقف فيه أحيانا عند هذه العاطفة أو تلك ونتعمق فيه أحيانا أخرى هذا الخاطر أو ذاك ، وأنت تعلم من غير شك أن حياة الطبقة الممتازة من الفرنسيين في النصف الأول من القرن الثامن عشر كانت قد دفعت إلى نوع من الحرية المسرفة يوشك أن يكون إباحة وإمعانا في المجون، دفعتها إلى ذلك أشياء كثيرة، منها حاجة الفرنسيين إلى شيء من الهواء الطلق والتنفس الحر، بعد أن ثقلت عليهم تلك الحياة التي فرضها حكم لويس الرابع عشر عليهم، نصف قرن أو أكثر من نصف قرن، وكلفهم فيها كثيرا من الجهد وعرضهم فيها لكثير من الخطوب، وحملهم فيها كثيرا من التضحيات، فلم يكد هذا الملك العظيم ينتقل إلى الحياة الثانية حتى أحس الفرنسيون كأن عبئا ثقيلا جدا قد حط عن كواهلهم، فأصبحوا أقدر على الحركة، وأميل إلى النشاط، وأسرع إلى الاستمتاع بالحياة في غير تكلف ولا استخفاء، ومنها أن العقل الفرنسي كان قد اتصل بالنهضة العلمية التجريبية كما تأثر بالفلسفة الحديثة التي تحررت من قيود أرسطاطاليس، فتغير فيه كثير من القيم، وعرف كثيرا مما كان ينكر، وأنكر كثيرا مما كان يعرف، ونظر إلى الحياة التقليدية نظرة فيها كثير من السخرية والازدراء، ولم تلبث الحياة العملية أن دفعت إلى الحرية التي دفع إليها العقل، فأعلن الناس كثيرا مما كانوا يسرون، وأظهروا كثيرا مما كانوا يخفون.
ومنها أن الأدب الفرنسي نفسه كان قد أخذ في هذا العصر يضيق بالقيود والقوانين التي فرضت عليه أثناء القرن السابع عشر، ورسمت له طرقا لا ينبغي أن يعدوها، ومذاهب لا ينبغي أن يخالف عن أمرها، تخضعه بذلك لمذاهب القدماء من اليونانيين والرومانيين، كما صورت في إيطاليا أو كما صورها الفرنسيون لأنفسهم في فرنسا نفسها أثناء القرن السادس عشر وفي أول القرن السابع عشر، فلم يكد عصر لويس الرابع عشر ينتهي أو يقارب الانتهاء حتى ظهر الخلاف ثم اشتد بين القدماء والمحدثين، وما من شك في أن هناك أسبابا أخرى كثيرة، دفعت الطبقة الممتازة في فرنسا إلى استئناف هذه الحياة الجديدة الحرة الماجنة المتهالكة التي ظهرت قوية في عهد الوصاية، وجعلت تزداد قوة وتسلطا كلما تقدمت الأيام، وهذه الأسباب تتصل بالسياسة، وتتصل بالاقتصاد، وتتصل بالثقافة، وتتصل بهذا المركز الممتاز الذي أتيح لفرنسا في ذلك العصر وجعلها أعظم مركز من مراكز الحضارة في أوروبا، ثم تتصل آخر الأمر بهذه العلاقات القوية التي استوثقت بين الفرنسيين وبين البلاد المجاورة لهم، فجعلوا يرحلون إلى هذه البلاد ويظهرون على ما فيها من ألوان الحياة، كما جعل أهل هذه البلاد يرحلون إلى فرنسا ويظهرون على ما فيها من ألوان الحياة أيضا، والواقع من الأمر على كل حال هو أن فرنسا دفعت في هذا العصر إلى حياة جديدة، تحرر فيها الممتازون من كثير جدا من قوانين الخلق والعرف والدين.
ومولد الآنسة التي أريد أن أتحدث عنها في هذا الفصل، مظهر من مظاهر هذا الانحلال، وأثر من آثاره في وقت واحد، فقد كانت أمها سليلة أسرة نبيلة غنية، وكان زوجها الكونت دالبون سليل أسرة نبيلة غنية أيضا، وكان هذان الزوجان قد نعما بالحياة عصرا، ورزقا في أثناء ذلك الولد من الذكور والإناث، ولكن الأمر بينهما فسد - وما كان أكثر ما يفسد الأمر بين الأزواج! - فاتصلت أسباب الزوجة برجل نبيل غني هو الكونت جسبار دي فيشي، ورزقت منه غلاما انتهت به الحياة إلى التربية الدينية، وإلى أن أصبح رجلا من رجال الدين، ورزقت منه طفلة هي هذه الآنسة التي نتخذها موضوعا لهذا الحديث، وقد عمدت هذه الطفلة في كنيسة من كنائس ليون، ولكن اسمي أبويها قد اخترعا اختراعا مخافة العار، فلم تنسب إلى أمها ولا إلى أبيها، وإنما ذكر للقسيس اسمان من أسماء الطبقة الوسطى العاملة، واطمأنت الأم إلى أن نفس ابنتها قد أصبحت نفسا مسيحية، وما ينبغي أن نفترض أن الأم قد قصرت في ذات ابنتها أو أحبتها حبا فاترا، فقد كلفت الأم بابنتها كلفا شديدا، وعنيت بتربيتها عناية متصلة، لم تستخف بشيء من ذلك ولم تحتط فيه، وإنما ضمت ابنتها إليها، وقامت على تأديبها وتثقيفها، ومنحتها من حبها وعطفها مكانا ممتازا، ولم تقصر إلا في شيء واحد هو هذا الذي يتصل بالحياة المدنية الرسمية؛ فهي لم تلحقها بأبيها لأن ذلك لم يكن ممكنا، ولم تلحقها بأمها لأنها لم ترد أن تعترف على نفسها بالإثم، وإنما أعطتها اسما من أسماء الأرض التي كانت ملكا لأسرتها الخاصة، فسميت جولي دي لسبيناس، ومنحتها بعد ذلك كل ما كانت تملك لأبنائها الشرعيين من الحب والعطف والإيثار.
على أن المشكلة لم تلبث أن ثارت غير مرة حين تقدمت السن بالفتاة، وربما كان أيسر الأشياء - أو قل أيسر الخطوب التي عرضت لهذه الفتاة - أمر مستقبلها حين تقدمت السن بأمها، وأخذت تحس أنها تسعى إلى الموت مسرعة، أو أن الموت يسعى إليها متمهلا، كما يتمهل دائما في سعيه إلى الناس، فلم يكن من الممكن أن ترث الفتاة أمها، وتشارك في تركتها الضخمة، لم يكن ذلك ممكنا؛ لأن الأم لم تستلحق ابنتها، ولأن إخوة الفتاة لأمها يكرهون ذلك أشد الكره ويمانعون فيه أشد الممانعة، ولم يكن من الممكن أن توصي الأم لابنتها بشيء ذي خطر يحميها من عاديات الأيام؛ فقد كانت الأسرة تراقب هذه الأم وتراقب تصرفها في ثروتها كلما دنت من الموت، أو دنا الموت منها.
ولذلك لقيت الأم البائسة من التفكير في مستقبل ابنتها عناء شديدا، وانتهت آخر الأمر إلى أن أوصت لها بإيراد ضئيل، إن لم يتح لها الترف وخفض العيش فإنه يعصمها من البؤس، ويكفل لها حياة محتملة.
على أن الأم قد احتالت لإيثار ابنتها ببعض الخير، فادخرت لها مقدارا من الذهب لا بأس به، وأظهرت الفتاة على مكانه، وأسرت إليها أن احتفظي لنفسك بهذا المال حين يدركني الموت، ولكن الفتاة كانت نقية النفس، كريمة الطبع، نزيهة الخلق، محبة لإخوتها، فلم تحتفظ لنفسها بشيء، وإنما أدت إلى أخيها الأكبر كل شيء، وسنتبين بعد حين أثر هذا كله فيما تعرضت له الفتاة في حياتها من الأحداث، على أن المشكلة الخطيرة التي عذبت الفتاة عذابا شديدا، وعذبت أمها عذابا ليس أقل مما احتملت الفتاة هولا، ولعله أن يكون أعمق أثرا وأعظم نكرا، هي هذه التي ثارت حين أحب الكونت جسبار دي فيشي أبو الفتاة الآنسة ديان دالبون أخت الفتاة لأمها، فخطبها واتخذها لنفسه زوجا، ولم تستطع الأم البائسة أن تمانع أو تقاوم، لأسباب تتصل بالثروة والشرف والعلاقة بين أسر النبلاء، وقد كانت هذه الخطبة وما تبعها من الزواج أساسا للمأساة التي قتلت نفس الأم وعذبت نفس الفتاة عذابا طويلا، وأثرت في الأدب الفرنسي كله آثارا بعيدة المدى، وهذه المأساة التي لم يتخيلها أحد ولم ينشئها كاتب قديم أو حديث، وإنما أنشأتها الظروف ومثلتها الحياة، هذه المأساة ليست أقل روعة من أي مأساة أخرى تصورها القدماء أو المحدثون.
अज्ञात पृष्ठ