وفي تهامة وعسير حياة عقلية ولكنها ضئيلة جدا، وهي ممعنة في التصوف متأثرة في ذلك بإفريقيا الشمالية، فقد نقل إليها الإدريسيون طريقة مغربية انتشرت فيها وظفرت بالسلطان السياسي، ولكنها لم تحدث نهضة أدبية ولم تغير من حال الأدب شيئا.
أما اليمن فهي أشد البلاد العربية محافظة على قديم القرون الوسطى، يعنى أهلها بعلوم الدين على طريقة الزيدية من الشيعة وينشرون الكتب الكثيرة في هذه العلوم يطبعونها في مصر، ولهم شعر كثير ولكنه ما زال قديما متأثرا بالروح المصري الشامي الذي كان منبعثا في الشعر قبل النهضة الحديثة، والشعر عندهم مختلط بعلوم الدين، فقلما تجد منهم عالما دينيا إلا وله مشاركة في الشعر، وأكثر أئمتهم شعراء، وإمامهم يحيى الآن يجيد الشعر على النحو القديم، ومن غريب أمر اليمن أنها ظلت طوال القرون الوسطى أكثر البلاد العربية حظا من العلم والأدب في حواضرها، وكان يرجى أن تكون أسرع البلاد العربية إلى الأخذ بأسباب الحياة الجديدة، ولكنها الآن ربما كانت أشد البلاد الإسلامية كلها تمثيلا للحضارة القديمة والأدب القديم، وأهل اليمن يفدون على مصر ولكنهم يفدون للتجارة أو لدرس العلم في الأزهر، وليس منهم من يفكر في الاتصال بالمدارس الحديثة، وليس في صنعاء مدرسة وليس فيها مطبعة، ومصدر ذلك - فيما يظهر - إشفاق أهل اليمن من الأجانب وإغلاقهم أبواب بلادهم في وجوه الأجانب من المسلمين والأوروبيين جميعا، ولكن الحضارة الحديثة المادية قد استقرت على سواحل اليمن ولا بد من أن تقتحم الأبواب المغلقة ولن تستطيع اليمن منذ الآن أن تقاوم هذه الحضارة. •••
وجملة القول أن جزيرة العرب الآن تشتمل على نوعين مختلفين من الحياة العقلية: إحداهما محافظة قديمة لا تزال قوية بحكم الجهل وانتشار الأمية، والأخرى مجددة لا تزال ناشئة بحكم الاتصال بأوروبا والبلاد الإسلامية الراقية، وسيشتد الصراع بين هذين النوعين من الحياة، ولكن النصر محقق للحياة الجديدة لأن جزيرة العرب قد فتحت للحضارة الأوروبية، ولن تستطيع أن تغلق أبوابها بعد اليوم في وجه هذه الحضارة، وقد يقال إن جزيرة العرب قد فتحت للحضارة الإسلامية في القرون الأولى ثم أغلقت من دونها فما الذي يمنع أن تفتح للحضارة الحديثة الآن ثم تغلق من دونها بعد حين؟ والجواب على ذلك يسير سهل: فقد كانت الحضارة الإسلامية القديمة تدخل بلاد العرب على ظهور الإبل وفي الكتب المخطوطة، أما الآن فهي تقتحم هذه البلاد بالسيارات والبخار والتلغراف والتلفون والكتب المطبوعة والصحف والمجلات، وأنى للبادية أن تقاوم هذه القوى المختلفة؟ المستقبل إذن للحياة الجديدة لجزيرة العرب، وسيكون هذا المستقبل قريبا في بعض البلاد وبعيدا في بعضها الآخر، ولكنه سيكون على كل حال.
بول ڤاليري
يسميه الفرنسيون شاعر العقل، ونستطيع أن نسميه عقل الشعر؛ فهذا الوصفان يصورانه أصدق تصوير، وكلا الوصفين يطابق صاحبه مطابقة دقيقة صادقة، والواقع أن حياة بول ڤاليري قد كانت سباقا بينه وبين الأدب، يفر هو من الأدب ما وجد إلى الفرار سبيلا، ويجد الأدب في طلبه ما وجد إلى الجد في طلبه سبيلا، وقد يضطر هذان المتسابقان إلى أن يلتقيا، فإذا كان بينهما اللقاء بدأ بينهما حب عنيف ووصال شديد القسوة قوامه الصراع المتصل، ثم ينكشف هذا الجهاد عن أثر من الآثار لا يستطيع الإنسان أن يقول أي المصطرعين قد غلب صاحبه عليه، أهو الأدب الذي قهر بول ڤاليري فأكرهه على أن يخرج للفرنسيين أروع ما عرفوا من الشعر وأبرع ما قرءوا من النثر، أم هو بول ڤاليري الذي قهر الأدب واضطره إلى أن يذعن لسلطان العقل ويخضع لأصوله الدقيقة ومناهجه الصارمة، ويخرج للفرنسيين حكمة مشرقة وفلسفة مضيئة قوامها الخير في أبدع صوره، والحق في أكرم مظاهره، والجمال كأروع ما يكون الجمال.
وقد يظن القارئ أني أذهب بهذا الحديث مذهب التمثيل والمجاز المقارب أو المباعد والافتنان في التعبير، ولكن الواقع في حياة بول ڤاليري ومن جهده العقلي والأدبي يطابق هذه الصورة التي عرضتها عليك أدق المطابقة وأصدقها، فقد ولد بول ڤاليري سنة 1871 في مدينة ست ونشأ فيها وبدأ فيها درسه، حتى إذا بلغ الرابعة عشرة انتقل إلى مونبلييه ليتم فيها درسه الثانوي، وكان أثناء هذا الدرس مزدريا لنظام الدراسة، معرضا عن درس المعلمين، ناقدا لأساتذته، ساخرا مما يقولون، مؤثرا الاعتماد على نفسه في تحصيل ما يحتاج إليه أو ما يميل إليه من العلم، وكان طموحا إلى العمل في الأسطول ضابطا بحريا، ولكنه لم يظفر من العلوم الرياضية بما كان في حاجة إليه ليدخل المدرسة البحرية؛ ولذلك أعرض عن البحر وعن الأسطول وعن الرياضة واكتفى بدراسة الحقوق، ثم كانت الخدمة العسكرية حين أتم التاسعة عشرة من عمره في مدينة مونبلييه أيضا، وفي هذا الوقت عرف شابين فرنسيين كان لهما حظ من البحر عظيم؛ أحدهما بيير لويس، والآخر أندريه جيد. ولما فرغ من الخدمة العسكرية - وكان قد قرض شيئا من الشعر - لم تعجبه الحياة الأدبية؛ فقرر الانصراف عنها والفراغ للحياة العقلية الخالصة، وأنفق في هذه الحياة العقلية الخالصة أعواما، وأكبر الظن أنه أخذ يقرأ آثار الفلاسفة القدماء والمحدثين، ويفكر فيما يقرأ ناقدا محللا مستنبطا، وأكبر الظن أن السباق بينه وبين الأدب قد بدأ في ذلك الوقت؛ فهو كان قرض شيئا من الشعر ونشره في بعض المجلات وظفر بشيء من الإعجاب، ولكنه أعرض عن الشعر وفرغ للفلسفة، وإذا حياته العقلية التي فر إليها من الأدب تثير في نفسه خواطر لا يجد بدا من تسجيلها، ولو استطاع لما سجلها ولا حفل بها، ولكن هذه الخواطر تلح عليه وتلح، وتضطره إلى أن يقف عندها ويطيل الوقوف، ثم إلى أن يسجلها فيحسن التسجيل، وهو يكتب آيته الرائعة «مسيو تست»، ومسيو تست هذا ليس إلا بول ڤاليري في هذا الطور من حياته، حين شغف بالعقل وآثر أن ينحاز إليه ويقف نفسه على التفكير فيه، وحين بهره ما رأى من حياة العقل فيما بينه وبين نفسه أولا وفيما بينه وبين الحقائق الخارجية ثانيا، وقد اضطره هذا المشهد الرائع الذي استكشفه حين عكف على نفسه إلى حياة داخلية قوية أشد القوة، إن صح هذا التعبير، فهو قد استكشف في ضميره عالما أشد جمالا وأعظم روعة وأكثر دقة وتنوعا من العالم الخارجي الذي يعيش فيه، فمنح عنايته كلها أو أكثرها لهذا العالم الداخلي، وعاش مع نفسه أكثر وقته، ولم يصبح العالم الخارجي بالقياس إليه إلا وسيلة للعالم الداخلي يمنحها من العناية أيسرها وأهونها شأنا، فهو يحيا بين الناس وكأنه لا يراهم، ويتحدث إليهم وكأنه لا يسمعهم لأنه مشغول بهذا العالم الرائع البديع الذي يملأ نفسه من جميع أقطارها، فحياته في العالم الخارجي آلية غافلة ذاهلة، ولكنه يمنح هذا العالم الخارجي في بعض الأوقات النادرة لفتة من لفتاته، وإذا هو يلتهمه التهاما وينقض عليه كما ينقض الوحش على فريسته، ثم لا يلبث أن ينصرف عنه إلى عالمه الخاص وكأنه لم يره ولم يلمم به.
والمهم هو أن بول ڤاليري الذي فر من الأدب إلى الفلسفة لم يستطع أن يفلت من الأدب، وإنما أدركه الأدب، وكان بينهما هذا الجهاد الذي انتهى بإنشاء هذا الكتاب الذي سيظل شابا دائما وخصبا دائما وحافلا بما يملأ النفس إعجابا وبما يدفع العقل إلى التفكير المتصل الذي لا يضيع في غير نفع ولا يذهب في غير غناء.
وفي هذا الكتاب الصغير القصير الحجم الكبير الطويل بقيمة ما فيه من فن وفلسفة، ظهرت هذه الشخصية القوية التي عرفها المثقفون والمتأدبون لبول ڤاليري أثناء حياته كلها، فإذا كان شخص بول ڤاليري يمتاز بشيء في حياته، وفيما أنتج من شعر ونثر، فإنما يمتاز بهذا الصراع المتصل العنيف المتغلغل في كل شيء، المتناول لكل شيء، بين عقله العظيم الرزين ذي المزاج المعتدل والبصيرة النافذة والقدرة على التجريد والنظر إلى الأشياء من عل، وبين حسه الدقيق المرهف وشعوره الرقيق الحاد وذوقه المصفى المهذب، ثم يمتاز بأن هذا الصراع ينتهي دائما إلى نوع من السلام الممتاز الرائع بين العقل والحس والشعور والذوق، فأنت حين تشهد نتائج هذا الصراع إنما تشهد انسجاما غريبا بديعا بين هذه العناصر كلها، قد أخذ من كل واحد منها بمقدار، ولاءم بين هذه المقادير ملاءمة دقيقة إلى أبعد حدود الدقة، بحيث لا تستطيع أن تجد فيها عوجا ولا أمتا ولا انحرافا، ومصدر هذا كله أن هذه الملكات التي يأتلف منها شخص بول ڤاليري قد كانت قوية إلى أبعد غايات القوة، معتدلة مع ذلك إلى أقصى حدود الاعتدال، وكانت إرادة بول ڤاليري متسلطة على هذه الكلمات تسلطا قوامه الحزم والعدل؛ فهي تلائم بينها في صرامة وتقيم الأمر بينها بالقسطاس وتمنع بعضها أن يبغي على بعض، وما أعرف أني قرأت لكاتب أو شاعر في لغة من اللغات التي استطعت أن أقرأ فيها، فوجدت هذا الاعتدال والاستواء والتناسق كما أجدها فيما أقرأ لهذا الكاتب الشاعر العظيم، لا أستثني من ذلك إلا حوار سقراط، وما أظن أن شيئا قد أثر في التكوين العقلي لڤاليري كما أثر فيه حوار سقراط.
وفي أواخر القرن الماضي في سنة 1898 كان بول ڤاليري الذي قارب الثلاثين يعيش في باريس، وقد اشتغل موظفا في وزارة الحرب معرضا عن الأدب والأدب يطلبه، متصلا مع ذلك بالشاعر الفرنسي العظيم «ستيفان مالرميه» محبا له مفتونا بفنه الغامض الذي يروع باستوائه والتوائه، إن أمكن أن يجتمع الاستواء والالتواء، والذي يفتن بدقته وارتفاعه إلا عن العقول والملكات التي امتازت حتى كادت تصبح هي والامتياز شيئا واحدا. وفي سنة 1900 فقد بول ڤاليري أستاذه مالرميه وترك وزارة الحرب والتحق بشركة هافاس البرقية واتخذ له زوجا، وأمعن في الانصراف عن الأدب، وخيل إلى نفسه وإلى الناس أن قد قطعت الصلة بينه وبين خصمه هذا العنيد إلى آخر الدهر، ويقول الذين يعرفونه، والذين تتبعوا حياته في الأعوام الأولى من هذا القرن، إنه مضى في حياته العقلية الفلسفية، وإنه تعمق الرياضة التي استعصت عليه في أيام الشباب الأولى، ولكنه قد نشر في بعض المجلات وأرسل إلى بعض الأصدقاء مقطوعات من الشعر أحبوها ورضوا عنها، وقد أقبل أندريه جيد ذات يوم على صديقه بول ڤاليري سنة 1911 حين بلغ الأربعين من عمره يطلب إليه الإذن في أن يجمع ما تفرق من شعره لينشره في المجموعة التي كانت تنشرها المجلة الفرنسية الجديدة، وقد امتنع بول ڤاليري على صديقه امتناعا شديدا، ولكن أندريه جيد ألح إلحاحا شديدا أيضا، وانتهى الأمر إلى أن قبل ڤاليري إعادة النظر في شعره ذاك.
وقد استأنف النظر في هذا الشعر، فلم ينفق في ذلك أياما ولا أسابيع ولا أشهرا، وإنما أنفق فيه خمسة أعوام أو أكثر من ذلك قليلا، ففي سنة 1917 فوجئ الناس بظهور الديوان الأول لهذا الشاعر الممتنع على الشعر ولهذا الأديب المتأبي على الأدب، وكان بول ڤاليري قد قارب الخمسين من عمره، وليس من شك في أن ديوانه الأول ثم ما تبعه من الشعر والنثر بعد ذلك قد فجأ المتأدبين فجأة قوية رائعة، وإذا بول ڤاليري يحتل مكانه بين الأدباء والشعراء والممتازين، كأنما كان هذا المكان الممتاز قد هيئ له من قبل فهو ينتظره منذ وقت طويل، ومنذ ذلك الوقت شغلت البيئات والمجلات الأدبية والصحف السيارة بأدب بول ڤاليري أكثر مما شغلت بأي إنتاج أدبي آخر، ثم أخذ نجمه يتألق في الأفق حتى ملأه نورا، وإذا هو يتجاوز حدود فرنسا إلى أقطار الأرض كلها، وإذا هو أديب عالمي في أقل من عشر سنين منذ نشر ديوانه الأول، وإذا هو عضو في المجمع اللغوي الفرنسي في سنة 1927 يشغل كرسي أناتول فرانس ويلقي خطبته الرائعة التي لم يفرغ الناس من الحديث عنها بعد والتي لم يدافع أحد عن أناتول فرانس كما دافع عنه فيها، وقد أنشأت عصبة الأمم مجلس التعاون الفكري، وأنشأ هذا المجلس لجنة الفنون والآداب، وأصبح بول ڤاليري رئيسا لهذه اللجنة بل أصبح عقلها المفكر وقلبها النابض، ثم أنشئ معهد البحر الأبيض المتوسط في نيس وأصبح بول ڤاليري رئيسا له، ثم أنشئ في الكوليج دي ڤرانس كرسي للشعر وأصبح بول ڤاليري صاحب هذا الكرسي، وهو قد عين أستاذا بعد أن نيف على الستين.
अज्ञात पृष्ठ