قلت: إن هذا المذهب جديد قديم معا ، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين ولكنه قديم في حقيقة الأمر لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من كل شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي خالصا لله وحده ملغيا لكل واسطة بين الله وبين الناس، هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب، فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة، كانوا يعظمون القبور ويتخذون بعض الموتى شفعاء عند الله ويعظمون الأشجار والأحجار ويرون أن لها من القوة ما ينفع وما يضر، وكانوا قد عادوا في سيرتهم إلى حياة العرب الجاهليين فعاشوا من الغزو والحرب ونسوا الزكاة والصلاة وأصبح الدين اسما لا مسمى له، فأراد محمد بن عبد الوهاب أن يجعل من هؤلاء الأعراب الجفاة المشركين قوما مسلمين حقا على نحو ما فعل النبي بأهل الحجاز منذ أكثر من أحد عشر قرنا.
ومن الغريب أن ظهور هذا المذهب الجديد في نجد قد أحاطت به ظروف تذكر بظهور الإسلام في الحجاز، فقد دعا صاحبه إليه باللين أول الأمر فتبعه بعض الناس، ثم أظهر دعوته فأصابه الاضطراب وتعرض للخطر، ثم أخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر كما عرض النبي نفسه على القبائل، ثم هاجر إلى الدرعية وبايعه أهلها على النصر، كما هاجر النبي إلى المدينة، ولكن ابن عبد الوهاب لم يرد أن يشتغل بأمور الدنيا فترك السياسة لابن سعود واشتغل هو بالعلم والدين واتخذ السياسة وأصحابها أداة لدعوته، فلما تم له هذا أخذ يدعو الناس إلى مذهبه، فمن أجاب منهم قبل منه، ومن امتنع عليه أغرى به السيف وشغب عليه الحرب، وقد انقاد أهل نجد لهذا المذهب وأخلصوا له الطاعة وضحوا بحياتهم في سبيله على نحو ما انقاد العرب للنبي وهاجروا معه.
ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها لكان من المرجو جدا أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة، كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول، ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب، وقد كان هذا الأثر عظيما خطيرا من نواح مختلفة، فهو قد أيقظ النفس العربية ووضع أمامها مثلا أعلى أحبته وجاهدت في سبيله بالسيف والقلم واللسان، وهو قد لفت المسلمين جميعا وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص إلى جزيرة العرب.
فبينما كان الترك والمصريون يحاربون الوهابيين كان أنصار القديم من علماء العراق، سواء منهم أهل السنة والشيعة يردون على هذا المذهب ويكفرون أصحابه، وكان الوهابيون يناضلون عن مذهبهم، وكان أولئك وهؤلاء يقرءون كتب السلف في التفسير والحديث والتوحيد والفقه يلتمسون الأدلة على آرائهم، وكان أولئك وهؤلاء ينشرون الرسائل والكتب التي يجمعونها، كما أخذوا ينشرون الكتب القديمة التي يرجع إليها في التماس الأدلة والبراهين، وكذلك عادت الحياة القوية إلى مذهب أحمد بن حنبل الذي تبعه النجديون، ونشرت كتب ورسائل كثيرة لابن تيمية وابن القيم، واستفاد العالم العربي كله من هذه الحركة العقلية الجديدة، وليس من شك عندي في أن هذه الحركة نفسها قد أيقظت أهل اليمن أيضا، فنهضوا يدفعون عن مذهبهم الزيدي؛ ينشرون كتبهم القديمة ويؤلفون كتبا جديدة في الفقه والتوحيد والحديث، وما زالت مطابع القاهرة إلى الآن تطبع الكتب المختلفة لحساب الوهابيين من أهل نجد والزيديين من أهل اليمن. •••
وفي أثناء هذه الحركة العنيفة ظهر حول الأمراء المجاهدين من أهل نجد جماعة من الشعراء أخذوا يفتخرون بانتصارهم في المواقع ويعتذرون عما يصيبهم من الهزيمة، وليس من الممكن أن يقال إنهم جددوا في الشعر وأحدثوا فيه ما لم يكن، ولكنهم على كل حال عادوا به إلى الأسلوب القديم وأسمعونا في القرن الثاني عشر والثالث عشر في لغة عربية فصيحة هذه النغمة العربية الحلوة التي لم تكن تسمع من قبل. هذه النغمة التي لا يقلد صاحبها فيها أهل الحضر ولا يتكلف فيها البديع وإنما يبعثها حرة ويحملها كل ما تجيش به نفسه من عزة وطموح إلى المثل الأعلى ورغبة قوية في إحياء المجد القديم.
نجح المصريون في إخماد هذه الثورة الوهابية، أو قد نجحوا في إفساد هذه النهضة ولكنهم لم يقتلوها؛ أضعفوا سلطانها السياسي ولكن سلطانهم هم السياسي قد أضعفته أوروبا بمعاهدة سنة 1840، وعجز الترك عن أن يحكموا قلب الجزيرة العربية؛ فاستراح الوهابيون وأسوا جراحهم واستأنفوا قوتهم ونشاطهم ومضت نهضتهم الدينية في سبيلها، ثم تبعتها في هذه الأيام نهضة سياسية بسطت سلطانهم على نجد كله وعلى الحجاز كله وأعادت لهم المثل الأعلى وهو توحيد الكلمة العربية، ولكن بلوغ هذه الغاية الآن ليس من السهولة واليسر بحيث كان أوائل القرن التاسع عشر، فقد استيقظ الشعور القومي في البلاد العربية كلها وأحاطت بجزيرة العرب من جميع أطرافها قوة ليس فيها ما كان في القوة التركية من الضعف والفساد والاضطراب والفقر وهي قوة الإنجليز، وليس الذي يعنينا هو المستقبل السياسي لهذه البلاد وإنما الذي يعنينا هو المستقبل الأدبي، ومن المحقق أن هذا المستقبل الأدبي سيكون باهرا في يوم من الأيام، قريب أو بعيد.
جمع ملك الوهابيين الآن جزءا عظيما جدا من الجزيرة العربية ولم يبق سبيل إلى أن يظل الوهابيون وغيرهم من ملوك العرب وأمرائهم بمعزل عن الحياة العالمية العامة كما كانوا من قبل، بل هم مضطرون إلى أن يتصلوا بالممالك الإسلامية والأوروبية اتصالا سياسيا واقتصاديا منظما، وقد بدأوا ينظمون هذا الاتصال بالفعل؛ فللوهابيين وزير مفوض في لوندرة، وملك الوهابيين على اتصال مستمر بممثلي الإنجليز في عدن، وقد بدأ الإيطاليون يدورون حولهم، وهناك صلات أخرى ربما كانت أشد وأسرع تأثيرا من هذه الصلات السياسية والاقتصادية وهي الصلة العقلية التي تحدثها الصحف والمجلات، والكتب تطبع الآن بكثرة في مصر وفلسطين والشام والعراق وأمريكا، وكلها أو كثير منها يصل إلى كثيرين من أهل الجزيرة العربية، وهم يقرءون فيفهمون أحيانا ويعجزهم الفهم أحيانا أخرى، ولكنهم يعجبون على كل حال، والإعجاب أول التقليد، والتقليد أول الإنتاج الفني.
وقد بدأت بشائر الحياة الجديدة ظاهرة جلية ، ففي مكة صحيفة تنطق بلسان الحكومة وتنشر أدبا وسياسة على نحو ما كانت تفعل الجريدة الرسمية أول الأمر، كانت القبلة أيام ملك الهاشميين وهي الآن تسمى أم القرى، وكانت في مكة مجلة الإصلاح، وفي مكة مطابع، وفي مكة أيضا وغيرها من مدن الحجاز مدارس مدنية على نحو المدارس المصرية الابتدائية تدرس فيها أوليات العلم درسا حديثا وتعلم فيها بعض اللغات الأوروبية، كل هذا إلى جانب التعليم الديني القديم، وأغرب من هذا أن دعوة إلى التجديد الفكري والأدبي قد ظهرت في الحجاز منذ أعوام بتأثير ما يكتبه المصريون والسوريون، وهذه الدعوة عنيفة جدا فهي ساخطة أشد السخط على كل قديم في الحجاز؛ على التعليم الديني والأدبي وعلى نظام الحكم وعلى الحياة الاجتماعية، وقوام هذه الدعوة أن الحجاز يجب أن يحيا حياة الأوطان الحرة المستقلة وأن يحتفظ من قديمه بالدين واللغة ويأخذ عن الأوروبيين بعد ذلك ما استطاع، وأن يستفيد من إقبال المسلمين عليه للحج فلا يفنى هو في المسلمين، وأن يعنى أهله أشد العناية بالتعليم المدني وباللغتين الإنجليزية والفرنسية لأن إحداهما لغة الاقتصاد والتجارة والأخرى لغة العلم والأدب.
وقد بدأ الحجاز بالفعل يرسل شبابه إلى مصر ليدرسوا فيها العلم على نحو ما يدرسه المصريون، وأصحاب الدعوة إلى التجديد لا يكتفون بهذا بل يريدون أن يبعثوا أبناء الحجاز إلى باريس ولندرة، وقد بدأ الحجازيون المجددون ينشئون الشعر والنثر على مذهبهم الجديد ولكنهم لم يوفقوا بعد إلى أن يكونوا للحجاز شخصية أدبية، إنما هم تلاميذ السوريين، والسوريين المهاجرين إلى أمريكا بنوع خاص، فمثلهم العليا في الأدب يلتمسونها عند الريحاني وجبران خليل جبران ومن إليهما. •••
ومع إسراف النجديين في المحافظة، بحكم مذهبهم الوهابي، فلن يستطيعوا مقاومة الحركة التجديدية التي تأتيهم من العراق ومصر، وبين يدي الآن طائفة من القصائد غير قليلة أنشأها جماعة من الشعراء النجديين في مدح الملك عبد العزيز بن سعود، والذي يقرأ هذه القصائد يجد فيها تأثيرا ظاهرا جدا للروح العراقي الذي يتجلى في شعر جميل الزهاوي ومعروف الرصافي وعبد المحسن الكاظمي، والروح المصري الذي يتجلى في شعر حافظ وشوقي، ولكن للشعر النجدي الجديد شخصية تميزه من شعر العراق ومصر، فهو على تأثره بالشعراء المحدثين محافظ في لغته محافظة غريبة، يتخير القوافي الصعبة ويطيل فيها ويكثر منها ويسرف في الألفاظ الغريبة البدوية كأنه يلتمسها من المعاجم، وكأنه يأخذها من لغة البادية النجدية التي هي في مادتها على كل حال لغة الشعر العربي القديم، وقلما يستطيع الشعراء النجديون أن يتتبعوا شعراء العراق في تأثرهم بفلسفة المعري والخيام، أو بالنزعات الأوروبية الحديثة، أو يتتبعوا المصريين في تجديدهم العنيف لألفاظ الشعر وأساليبه ومعانيه، وإنما هم معتدلون، وهم إلى إحياء الشعر القديم أقرب منهم إلى إيجاد شعر جديد، وهم بدويون على كل حال، وهم ينشدون الملك في شعرهم كما كان يفعل القدماء، ويجيزهم الملك على هذا الشعر بالإبل أحيانا وبالثياب أحيانا أخرى وقلما يجيزهم بالذهب والفضة، وأهل نجد يختلفون إلى العراق كثيرا، والعراقيون يصعدون إلى نجد، ولا بد من أن يعود الحال بين القطرين إلى ما كان عليه أيام بني أمية من التعاون الأدبي القوي.
अज्ञात पृष्ठ