فالإله عند هذا الحبر الذي صنعه ألبير كامو سيد متكبر متجبر عزيز منتقم، يضع الإنسان أمام سيئاته دون أن يفتح له بابا من أبواب الرحمة، أو يمسه بجناح من الرفق، وهو يأخذ البريء بذنب المسيء، ويعاقب الصغار بذنوب الكبار، كذلك صور هذا الحبر موقف الإنسان من إلهه موقف العبد الخاضع المذعن الذي يجب أن يمعن في الخضوع والإذعان، من السيد الكبير المتجبر الذي يستطيع أن يمعن في الجبرية والكبرياء.
وواضح أن الذين لا يؤمنون من الملحدين ينكرون هذا الإله المتكبر المتجبر، ويرون أن في كبريائه وجبريته قسوة عنيفة، وغلظة غليظة، وتجافيا عن العدل؛ فما ذنب الأطفال الذين عذبهم الطاعون وهم لم يعصوا للإله أمرا ولم يخالفوا عن قانونه؛ لأنهم لم يعرفوا هذا القانون ولم يبلغوا سن التكليف.
ومن يكفل أن يكون الثواب الذي يدخره هذا الإله لمن يدخره له من الناس قائما على العدل، ما دام العقاب فيما يرون ليس قائما على العدل؛ فالمتكبر المتجبر قادر على أن يتحكم فيما يدخر للناس من مثوبة، كما يتحكم فيما يصب عليهم من عقوبة.
وهم من أجل ذلك لا يؤمنون بهذه الصلة التي لا تقوم على العدل، ولا على الحرية، وإذا كانوا لا يعرفون طريقا إلى الإله غير هذه الطريق التي رسمها الدين، كما صوره هذا الحبر، فهم لا يؤمنون بشيء بعد الطبيعة، وهم من أجل ذلك يعملون لا ينتظرون على عملهم أجرا في الآخرة؛ لأنهم لا يعرفون الآخرة.
كما أنهم لا يخافون عقوبة في الآخرة إن لم يعملوا؛ لأنهم لا يعرفون الآخرة، وهم من أجل ذلك يمضون في محاولة الخير إلى أقصى غاية ممكنة، حتى يقول بعضهم لبعض: أليس من الممكن أن يصير بعض الناس قديسا مدنيا، دون أن يؤمن بالله الذي يتلقى القديسين بما أعد لهم من أجر ومثوبة، فيما يقول رجال الدين؟
كذلك عرض ألبير كامو هذه المشكلة عرضا يظهر فيه التحكم والسذاجة كما ترى؛ فأما التحكم فلأن حبره هذا ليس من الضروري أن يكون قد نطق بلسان أصحاب الديانات، فأحسن الإعراب عنهم، وآية ذلك أن رجال الدين أنفسهم ينكرونه، وآية ذلك بوجه خاص أن الديانات السماوية كلها لا تحدثنا على الإله المتكبر المتجبر المنتقم الباطش فحسب، ولكنها تحدثنا كذلك عن الإله الرحمن الرحيم العفو الغفور الذي يقبل الحسنة، ويتوب على المذنب، وتسع رحمته كل شيء وكل إنسان.
فمن التحكم إذن والتعسف أن يقال: إن صلة الإله بالإنسان هي صلة السيد المتجبر المتكبر بالعبد الذي يجب أن يذعن ويستكين ليس غير. وإنما الديانات تقول إنها كذلك صلة القوي الرحيم بالضعيف الذي يحتاج إلى الرحمة.
وأخص ما يؤخذ به ألبير كامو من التحكم في هذه القضية أنه ما زال يفكر بعقل القرن التاسع عشر حين كان هذا العقل ثملا مغرورا لكثرة ما استكشف من العلم وابتكر من المخترعات، حتى ظن أنه قد عرف كل شيء وأحاط بكل شيء، وأصبح قادرا على أن يحكم على كل شيء، ويقول كلمته في كل شيء.
ولكن العقل فيما يظهر قد ثاب إلى شيء من الرشد والتواضع منذ أواخر القرن الماضي، وقد استبان له أنه ما دام يعترف بأنه يجهل من حقائق هذا العالم أكثر مما يعلم، وبأنه يستكشف من حقائق هذا العالم قليلا، ويستكشفها في كثير من الحذر والاحتياط، فمن الجراءة أن ينكر ما عدا هذا العالم، وأن يقول فيما ليس له به علم، وما ليس له سبيل إلى القول فيه.
فهو لم يعرف الإله، ولم يستطع أن يجد الطريق إلى معرفته من طريق الحس والتجربة والملاحظة، كما يعرف ما يعرف من حقائقه العلمية، ولكنه يلاحظ - في غير شك - أن من الناس من يسلك إلى معرفة الإله طرقا غير طرق الحس والتجربة والملاحظة، ويجد في سلوك هذه الطرق رضا وأمنا وثقة واطمئنانا؛ فأيسر ما تفرضه عليه الدقة أن يقف موقف الانتظار، لا يتجاوزه إلى الجحود والإنكار، فضلا عن أن يتجاوزه إلى موقف الحكم على ما يوصف به الإله من صفات، وما يصدر عنه من أعمال.
अज्ञात पृष्ठ