وكلاهما يود لو بذل نفسه ثمنا للحظة قصيرة ينفقها مع صاحبه كما ينفق الأحياء أوقاتهم حين يكون بينهم الحب، ولكن كليهما يحس كأنه مدعو إلى موعد، فينطلقان حتى يبلغا تلك السيدة التي تسجل الموتى، فتنبئهما بأنها كانت تنتظرهما، وبأنها قد علمت أن كليهما يظن أن قد غلط به في الحياة، وأن كلا منهما قد خلق لصاحبه، وأن المادة الأربعين بعد المائة من القانون تقضي في مثل هذه الحال بتصحيح الخطأ ورد الحياة إليهما أربعا وعشرين ساعة.
فإذا استطاعا أن يستأنف كل منهما حياة قوامها الحب الصحيح مدت لهما أسباب الحياة، وإلا عادا إلى الموت، وهما يزعمان لهذه السيدة أن قد غلط بهما وأن كلا منهما قد خلق لصاحبه فترد إليهما الحياة، ويودعان الموتى الذين يتمنون لهما الخير، ومنهم من يكلفهما بعض الأعمال في عالم الدنيا.
ثم نعود إلى خارج المدينة؛ فإذا جثة بيير في مكانها، وإذ العمال من حولها يتأهبون لرشق الجند بالحجارة، والجند يتهيأون لإطلاق النار، فقد حدثت كل هذه الأحداث على كثرتها في لحظة قصيرة؛ لأن الزمن لا حساب له بالقياس إلى الموتى، وقد جلس بيير بعد أن ردت إليه الحياة، وتحدث إلى العمال فاستيقن أنهم يرونه ويسمعونه، وآية ذلك أنهم أطاعوه وتفرقوا، ولكنه ينهض في شيء من ذهول ويعمد إلى دراجته فيركبها ويعود إلى المدينة، وقد أرسل العمال من ورائه أحدهم ليتبعه ويعينه إن احتاج إلى شيء من عون.
ونعود إلى الغرفة التي ماتت فيها إيف، فنراها على سريرها وقد جثت أختها منتحبة إلى جانب السرير، ولكن إيف تتحرك ثم تتكلم ثم تنهض، وقد حدثت كل هذه الأحداث في أقصر لحظة ممكنة؛ لأن الزمن لا قيمة له بالقياس إلى الموتى، وقد ابتهجت أختها الفتاة حين رأتها تفيق، وسقط في يد الزوج فخرج يلتمس لها الطبيب، وجعلت إيف تتحدث إلى أختها محذرة لها من هذا الزوج الخائن الذي يخدعها ليظفر بثروتها، والفتاة تدافع عن هذا الزوج لأنها لم تر منه إلا خيرا.
ونحن أمام الدار التي تسكنها وهي دار أنيقة فخمة، قد أقبل عليها بيير، حتى إذا بلغها نزل عن دراجته ودخل وسأل البواب عن الطابق الذي تسكنه إيف شارلييه، فيدله عليه مزدريا له، ويأمره بأن يرقى إليه من سلم الخدم، ثم نرى الخادم قد أقبلت تنبئ سيدتها بمكان هذا العامل، وبأنه يريد أن يلقاها، وبأنه ينتظر في المطبخ.
فتذكر إيف كل ما حدث لها أثناء الموت وتأذن لبيير، فإذا أقبل راعه ما في هذه الدار من ترف لم ير مثله قط، وهو على كل حال يلقى صاحبته ويتحدث إليها ويدعوها إلى أن ترافقه، وهي تتردد شيئا، ثم تذكر ما زعمت لمسجلة الموتى، فتهم أن تخرج، ولكن الزوج يقبل، فيراهما وقد ظهر تفوقه على امرأته، فقد رآها في غرفتها مع رجل غريب من غير طبقتها، ورأى بينهما صلات لا تكون إلا بين العاشقين، فهو يريد أن يطردها، ولكنها تخرج مع رفيقها وفي نفسها شيء من حب، وفي نفسها كثير من حسرة وخوف على أختها.
وهما يستأنفان في الشارع كل ما حدث لهما أثناء الموت، فيسعيان إلى الحديقة، وإلى النادي، ويريان أصحاب إيف ويسمعانهم، ولكن أصحاب إيف يرونهما هذه المرة وينكرون مكانهما ويسخرون منهما، وهما يشقيان بذلك شقاء مختلفا مصدره استخذاء المرأة من رفيقها العامل الوضيع أمام هذه الطبقة الممتازة، واستخذاء الرجل من ضعة هيئته، ومما بينه وبين صاحبته من الفرق الهائل في الطبقة وفي الفقر والغنى.
ولكنهما كليهما حريصان مع ذلك على أن يستأنفا حياة قوامها الحب؛ فقد أعطيا بذلك عهدا في دار الموتى؛ فهما يعرضان عن كل ما يلقاهما من المصاعب، وهما يتراقصان في نفس المكان الذي تراقصا فيه ميتين، ولكنهما يجدان لذة الرقص في هذه المرة، ويكادان ينعمان بهذه اللذة لولا هذه البيئة التي تنغص عليهما كل شيء.
وقد وقع الشر بين بيير وبين رجل من هذه البيئة، وأقبل جندي يريد أن يعنف بيير، فتظهر إيف بطاقتها للجندي، ويعلم بيير لأول مرة أن زوجها يشغل منصبا خطيرا في الشرطة؛ فينصرف عنها هاربا، ألم ينفق حياته كلها في مقاومة هذه الشرطة والكيد لها؟
فالنظام الاجتماعي كله، والنظام السياسي كله، والنظام الاقتصادي كله، يحول بينه وبين هذه المرأة التي زعمت أنها خلقت له، والتي زعم أنه خلق لها، ولكن إيف تدركه وما تزال به حتى ترده إلى بعض الهدوء، ثم يتعاونان على إنفاذ ما أوصاهما به بعض الموتى فيقرب ذلك بينهما شيئا ما، ثم يذهبان إلى دار بيير ويفترقان حين يبلغانها، يريد بيير أن تستأنس صاحبته إلى هذه الدار وحدها من جهة، وأن يسرع إلى أصحابه فينبههم إلى الخطر الذي ينتظرهم من جهة أخرى، فأما هي فتصعد إلى الغرفة التي يعيش فيها بيير، وتجد شيئا من الحرج في الاطمئنان إليها والاستقرار فيها، ولكنها مع ذلك تذعن لما ليس منه بد فتأخذ في إصلاح الغرفة.
अज्ञात पृष्ठ