وقد يخطر لك أن هذه الفكرة الفلسفية المجردة قد تكون في نفسها قيمة عظيمة الخطر بعيدة الأثر في نفس الذين يظهرون عليها من النظارة حين يشهدون التمثيل أو من القراء حين يقرءون القصة، ولكنك تسأل: كيف عرضت هذه الفكرة على المسرح، وعلى الشاشة البيضاء، كما يقول أصحاب السينما؟ وهذا بالطبع حديث لا أريد أن أقف عنده الآن، وقد ألم به في مقال آخر حين أعرض لمسرحيات جان بول سارتر، وإنما يكفي أن تعلم أن التمثيل إنما يقوم على ما يكون بين هؤلاء النفر حين يلتقون من حوار فيه العسر واليسر، وفيه العنف واللين، وفيه الخلاف والوفاق.
وكله منته آخر الأمر إلى العجز واليأس اللذين ينتهيان بأصحابهما إلى الجنون، إلا أن الموتى لا يصيبهم الجنون، فأما السينما فإنه يصور هذا كله ويؤديه أداء حسنا، ولكنه يعرض مع هذا كله تلك الآلام والآثام التي اقترفها هؤلاء النفر في حياتهم الأولى، والتي يتحدث بها بعضهم إلى بعض في ملعب التمثيل، فلا تظهر النظارة عليها إلا من طريق اللفظ الذي تسمعه الأذن. فأما في السينما فيظهر النظارة عليها من طريق العين لأنها تمر أمامهم مرا كلما عرض لها أصحابها في الحديث.
وكأن نجاح هذه القصة في السينما قد أغرى الكاتب إغراء شديدا بأن يعنى بالسينما من حيث هو سينما، فلا يعيره قصة كتبت للملعب، وإنما يمنحه قصصا تكتب له خاصة.
ومن الكتاب الفرنسيين الممتازين من حاول وما زال يحاول هذا الفن السينمائي الخالص فيظفر بكثير من النجاح والتوفيق، والناس كلهم يذكرون روائع جان كوكتو ومارسيل بانيول، ولكن هذين الكاتبين وغيرهما لا يتجاوزون بآثارهم محاولة التوفيق بين السينما والفن؛ فليس يعنيهم أن يذيعوا فكرة فلسفية أو أدبية ما ، وإنما يعنيهم أن يمتعوا النظارة بالسينما كما تعودوا أن يمتعوهم بالتمثيل فأما جان بول سارتر، فهو لا يكره أن يمتع النظارة ولكنه لا يكتفي بإمتاعهم، وهو لا يكره أن يعظ النظارة ولكنه لا يكتفي بوعظهم، وإنما يحاول فوق الإمتاع والوعظ أن يعرض عليهم مشكلات عنيفة، بعضها يعرض للإنسان من حيث هو إنسان يفكر في حياته ومصيره تفكيرا فلسفيا، وبعضها يعرض له من حيث هو إنسان يدبر حياته تدبيرا سياسيا واجتماعيا، فيلقى في هذا كله ما يلقى من المصاعب والعقاب.
وقد كتب جان بول سارتر للسينما قصتين إلى الآن، عرضت إحداهما في كان ولم تعرض على الجمهور بعد، ونشرت الثانية في مجلة من مجلات السينما، ولست أعلم أن المخرجين قد هموا بإخراجها بعد.
فأما القصة التي أخرجت وعرضت بالفعل فعنوانها الفرنسي
Les jeux sont faits
وتستطيع أن تترجم هذا العنوان بهذه الكلمة العربية: «لقد تمت اللعبة»، كما تستطيع أن تترجمه بكلمة واحدة، وهي «هيهات». وهذا العنوان الفرنسي ليس إلا الجملة التي ينطق بها محرك «الروليت» في أندية القمار قبل أن يحرك هذه الأداة، وبعد أن يضع اللاعبون ما يضعون من النقد على ما يختارون من الأرقام.
وإذا نطق صاحب الأداة بهذه الجملة فهو إنما ينبه اللاعبين إلى أن أحدهم لا يستطيع أن يختار رقما غير الرقم الذي اختاره، ولا يستطيع أن يسترد النقد الذي وضعه على هذا الرقم؛ فقد تمت اللعبة ولم يبق إلا أن تجري الكرة وتختار اللاعبين أو تختار من اللاعبين صاحب الرقم الذي أتيح له الكسب، فإذا قلت: تمت اللعبة، أو قلت: هيهات، أو قلت: سبق السيف العذل، أو قلت: لا سبيل إلى استدراك ما فات، فقد أديت المعنى الفلسفي الذي قصد إليه الكاتب حين أنشأ قصته.
ويقول النقاد الذين شهدوا عرض هذه القصة في مدينة كان إنها لم تظفر بشيء من النجاح، ثم يختلفون بعد ذلك في مصدر هذا الإخفاق؛ فبعضهم يحمل تبعته على جان بول سارتر لأنه كلف السينما ما لا يطيق، وعرض على النظارة مشاهد لا يحبون أن يروها ولم يتعودوا أن يروها، وكلفهم أن يخادعوا أنفسهم خداعا عظيما قوامه التحكم الخالص ليفرقوا بين أشخاص ومشاهد لم يألفوا التفريق بينها.
अज्ञात पृष्ठ