وقد استعرض جان بول سارتر في كتابه هذا تاريخ الأدب الفرنسي في عصوره المختلفة، وبين مقدار ما كان بين الأدباء وقرائهم من الصلات والاشتراك في احتمال التبعات على اختلاف العصور وتباين الظروف، ووصل من هذا الاستعراض إلى نتائج رائعة في تاريخ الأدب الفرنسي ليس هنا موضع الحديث عنها.
ولكنه لاحظ أن تطور الحياة الحديثة، ولا سيما في القرن التاسع عشر وفي أوائل هذا القرن، قد انتهى بالأدب إلى أن يكون لونا من ألوان الترف يترفع عن الحياة اليومية العاملة ليعنى بألوان من هذه الحياة الفنية المترفة التي لا تتاح إلا لطبقات ضيقة من الناس.
ثم حاول أن يرسم للأديب المعاصر، ولنفسه وأصحابه بنوع خاص، برنامجا يحققون به الاتصال بينهم وبين قرائهم، ويشاركونهم به في مواجهة ما تمتلئ به الحياة المعاصرة من المشكلات التي تزداد عنفا وتعقدا من يوم إلى يوم.
وقد اضطره هذا إلى أن يستقصي مشكلات الحياة الاجتماعية في هذه الأيام، وينتقد المذاهب السياسية الاجتماعية التي تحاول حل هذه المشكلات، ويختار لنفسه ولأصحابه طريقا وسطا بين مذهب الشيوعيين الذين يلغون حرية الفرد، ومذهب البورجوازيين الذين يبيحون هذه الحرية لفريق من الناس دون فريق.
وأراد أن يصل إلى نوع من النظام يكفل للفرد حريته كاملة، ويكفل للجماعة عدلا شاملا، ويكفل للأديب حريته الكاملة في التفكير والتصوير والتعبير، دون أن يخضع لما تفرضه الأحزاب على أعضائها من قيود وأغلال تضطرهم إلى أن يفكروا ويصوروا ويعبروا كما يريد نظام الحزب، لا كما تريد حرية الفرد ولا كما تريد طبيعة الأشياء وحقائق الحياة.
وقد استعرض جان بول سارتر وسائل الاتصال بين الأديب المنتج والجمهور المستهلك، فلاحظ كما يلاحظ غيره من الناس أن العصر الحديث قد ابتكر لهذا الاتصال وسائل لم تكن معروفة من قبل، وأن هذه الوسائل قد طغت وأسرفت في الطغيان على الوسائل القديمة؛ فالصحف والمجلات أكثر اتصالا بالجماعات وتغلغلا بين طبقاتها من الكتب، والراديو أكثر اتصالا بالجماعات وتغلغلا بين طبقاتها من الصحف والمجلات فضلا عن الكتب، والسينما أكثر دعاء وأشد استهواء للجماعات على اختلاف طبقاتها من التمثيل.
وإذن فما ينبغي للأديب الذي يقدر الحياة الاجتماعية ويشارك فيها، وفي احتمال تبعاتها أن يهمل هذه الوسائل المستحدثة ، ويفرغ لاستخدام الوسائل القديمة التي لم تفقد قيمتها وخطرها، ولا ينتطر أن تفقد قيمتها وخطرها، ولكنها لا تستطيع أن تظفر من الشيوع والشمول والتغلغل في الطبقات المختلفة المتفاوتة بمثل ما تظفر به الوسائل المستحدثة، فستؤلف الكتب، وسيقرؤها القراء، وستنشأ المسرحيات وسيشهدها النظارة، ولكن الصحف والراديو والسينما ستكون أكثر انتشارا وأشد اتصالا بالجماعات وأعظم تغلغلا في طبقاتها من الكتب والمسرحيات.
وقد لاحظ جان بول سارتر في شيء من الدعابة أن مسرحية قصيرة من مسرحياته حظر تمثيلها في بريطانيا العظمى، ولكنها أذيعت في الراديو البريطاني، فكانت النتيجة أن الذين استمعوا لها من الإنجليز كانوا أكثر مرات كثيرة من الذين كان يمكن أن يشهدوها في ملعب التمثيل.
على أن الرقابة البريطانية قد فطنت آخر الأمر لهذه الملاحظة، فأباحت عرض هذه القصة في الملاعب، والمهم هو أن جان بول سارتر يريد بلا ريب أن يساير الحياة الحديثة، وأن يتصل بقرائه أو بمستهلكيه من طريق الوسائل المختلفة التي تستحدث لهذا الاتصال.
وقد سلك هو هذه الطريق؛ فهو يؤلف الكتب على اختلافها، يؤلف الكتب التي يقصد بها إلى الخاصة ليتحدث إليهم في الفلسفة الوجودية أو في هذا الموضوع أو ذاك من موضوعات الدراسة الأدبية. ويؤلف الكتب التي يتجه فيها إلى الجماعات الضخمة ليذيع فيها ما يريد أن يذيعه من تصوره للمشكلات وتصويره لها ومذهبه في حلها، يسلك في ذلك طريق القصص الطويل والقصير.
अज्ञात पृष्ठ