وكان مساء عندما ركبنا عائدين إلى القرية، ولم أحمل على الجوادين، بل تركت العجلة تمضي في رفق، فقد مضيت عدة سنين لم أشهد فيها الشمس في المغيب، ولم أمتع العين برؤية القمر بازغا، وفيما كنا ندنو من القرية تذكر الأولاد أنهم عما قليل مواجهون أباهم فانزووا في مجالسهم من العجلة خائفين.
وكانت التاسعة لما وقفت بنا المركبة فإذا به منتظر أوبتنا لدى الباب، فأجفلت لمرآه في موقفه لأنني كنت قد نسيته كل النسيان.
قال: ما شاء الله! حقا إنه لوقت بديع فيه تعودون، أين قضيتم هذه الفترة المتطاولة؟ ألا تعرفون أنني سأعود من العمل عشاء لأجد طعاما فلا أجده؟ اللعنة عليكم.
وراح يمطرنا وابلا من سبابه ولعناته.
ووقف الأطفال ينظرون إلينا مبهوتين جازعين.
قلت عابثة مفاكهة: هراء ما تقول، أنت لم تعمل شيئا كثيرا سحابة نهارك وعندك الأجيران يتوليان العمل عنك، أفيؤودك أن تصنع عشاءك بنفسك ولو مرة في العمر!
ولو أن السماء خرت عليه في تلك اللحظة لكان ذلك عليه أهون، فقد شك لهذه المفاجأة الجريئة، فوقف يحملق في وجهي البصر معقول اللسان، وقبل أن يستجمع لبه الذاهب كنت قد جمعت ما جئت به معي في المركبة ومشيت بالأولاد إلى البيت.
ومددت يدي إلى محجر عينه ودفعت إصبعي فيه.
فانفجر قائلا: أنت مجنونة! مجنونة ولا شك. يا عجبا! ما سمعت هراء كهذا في حياتي. تريدين أن تمرحي في البنادر وترتعي وتبددي مالي ونشبي وتعلمي أولادي ليكونوا غدا لصوصا وسفلة مشردين مجرمين؟ ولا مليم أنت مصيبة، أسمعت نذيري؟ نعم، لن تنالي مني شيئا، ولئن لم يسمع أولادك ما آمرهم به لأرجمنهم ولأصلبنهم في جذوع الشجر، وإذا لم تنتبهي لنفسك وتأخذي بالحكمة والعقل في مسلكك فسيصيبك غدا ما هو مصيبهم.
ونظرت إليه في تلك اللحظة وهو كالمجنون الراعد الراعش، فلم ألق بالا إلى ثورته وغضبه، وكأنما وهبني الله في تلك اللحظة قوة من لدنه فمضيت أقول: لقد كان لي خمسة آلاف جنيه يوم الزواج بك، ذلك مال تركه لي أبي، ولقد مضى علي ستة عشر عاما وأنا أتوسل إليك، وأستندي كفك لكل درهم أنفقه، وكل قليل ضئيل أحتاج إليه، وما أذكر أني أصبت منك في كل هذا الدهر الطويل غير دراهم معدودات، ولكني اليوم عاملة على أن أسترد بعض ما وهبت، ولست أسألك أكثره، وإنما فضلة منه أريد، ولقد أردت أن أدع لك الفرصة لتظهر شيئا من رجولتك فأبيت إلا أن تسلك مسلك الجبناء، فعلى رأسك إذن فلتقع التبعة، ولتحمل إصر ما جنيت.
अज्ञात पृष्ठ