وأخذت نفسها بالقصد في النفقة، حتى اجتمع لها من المال ما استعانته لتكفل لولدها من العلم والتربية والتحصيل ما يصيب الشباب في أهل طبقتها من المجتمع. ولما أراد ولدها أن يسلك نفسه في أحد الأندية الخاصة خلال أيام دراسته، راحت تدأب وتواصل العمل ليل نهار حتى استجابت لأمنيته، وذللت له مطلبه.
ولا تحسبن الفتى مؤثرا ذاته، متناسيا حق أمه عليه، أنانيا لا يحفل بغير مناعم عيشه وأطايب الحياة يؤتاها غير مسؤول ولا طالب ...
كلا، بل لقد كانت أمه تتكتم عليه دأبها، وتذهب ترتهن بقية ما أبقى الدهر من غاليها ونفيسها، لتوافيه بكل بهيج، وتحبوه بكل حباء طيب جميل، وما أحسبه كان راضيا عن خطتها لو أنه كان بها عليما، ولكنه كان فيما يرى من استخفاف الشباب لا يكرثه السؤال عن الوسيلة، ولا البحث عن شيء يطلبه فيجده، من أين جاء وكيف تحقق. وكان يفزع أبدا إلى أمه كلما خاب أمل، ويركن إليها كلما استبطأ رجاء، وهو عليم أنها لو استطاعت أن تحرك الجبال الرواسي من مستقرها، وتبلغ يدها السماء وأفقها في سبيل التوفية بحاجته والرجوع بطلبته لما ترددت ولا تأخرت. وبفضل سعيها المحمود، ونفوذها المسموع، ما لبث أصحاب الحانوت أن رضوا عنه وأرضوه لجمال وجهه وشدة فتونه، ومظهره الحسن الرائع الأخاذ، وتبديه في الحانوت خير عنوان لحسن الأدب، وخدمة المشترين. وكان أبدا مسرة العين وفرحة الناظر، فإذا خرج من المتجر ساعة الظهيرة للغداء خفقت قلوب كثيرات من النساء لمشهده ودارت نحوه الأعين والأبصار مأخوذة بجمال مطلعه، وكانت عيناه ترنوان أبدا بنظرة استخفاف بالحياة ومنزع إلى الهوى والعبث، ولكنهما لا تخلوان من نظرة الصدق والطهر والنقاء، وذلك أثر أدب أمه وعنايتها بتهذيبه من حداثته. وكانت أمه في تلك الأعوام الأولى من عهد نموه واقتبال شبابه، قد بعثته إلي لأمتحن فهمه لأسرار الحياة وأخبر إدراكه للحقائق.
وكنت رجلا عرك الدهر، وذاق في الحياة الحلو والمر، فرحت أبصره بها وأفتح عينه لوهادها السحيقة، فكان يفزع إلي بطلب النصيحة، ويقبل علي بدافع الغريزة، يلتمس عندي الرأي وحسن المشورة.
وفي تلك الأحاديث والخلوات إليه جعلت أتبين فعل مغناطيسية نفسه، وأشعر بمبلغ امتلاكه للقلوب، وصنع سحره في الأفئدة.
وكان السخط على هذا العمل الهين الذي أصابه في الحياة، يتسلل حينا إلى حديثه، ويغلب حينا على أنغام صوته ونبرات لهجته، وكنت وأنا جالس في حجرتي، أسمع نتفا من حديث الأم وولدها، يحملها الهواء إلى مسمعي من باب البهو أو النوافذ المفتحة؛ إذ كانت حجرتي لصق حجرتهما، فكنت أتبين من سقاط ذلك الحديث ولثيثه، أن الفتى غير راض بقسمته، ملتهف على إتيان الفعال الجسام، متبرم بالعيش، متململ من أن الحياة لم تبشر له ناهزة، ولم تلق بفرصها المؤاتية في طريقه.
ولكن أكبر ظني أن ذلك الشاب على رغم سخطاته العارضة على الحياة وشكاته كان على الدهر سيرتضي الحياة كما هي، وينزل على حكم المقادير وما قدرت، لو لم تعرض له في ذلك الصيف فتاة كان أبوها الجراح الكبير الطائر الذكر بجانب يساره الموروث، ولشبه الطائل، وكانت دارهما قصرا بديعا يأخذ العين جماله، وهو مرتاد الصفوة المختارة من أهل المدينة ومختلف وجوهها وعيونها الظاهرة.
وبتلك الحرية التي تسود نفوس أهل هذا الجيل، وتقرب بين شباب هذا العصر كان هو وهي من أفراد ندوة واحدة، وأعضاء رفقة مشتركة، وما لبث الناس أن رأوهما أكثر وقتهما مختلطين، يمشيان إلى نزهة، أو يعودان من طوفة، أو يجلسان معا إلى حفل، أو يرقصان في المجمع، هي بمرهف قدها وبهي جمالها، وهو الفارع الأغيد الوسيم.
ولم يكن يخفى على أحد فعل الحب، فقد كان يبدو للعين الصب المستهام، ولكم شهدت الحب والألم يعتركان في نظرات عينيه السوداوين.
وكانت الفتاة كذلك تغالب عاطفتها وهي تعلم أنه ليس من طبقتها، وتجاهد الحب عن فؤادها وهي مدركة أن لا أمل من وراء حبه وحبها، أما هو فكان يناضل ويغالب في سبيل سعادته، وهناءة عيشه، كدأب الشباب في النضال، وديدنهم في المجاهدة والغلاب، بتلك الفلسفة التي آمنوا بها ولما يؤمن بها المجتمع، وهي أن الحب لا يعرف طبقات، بل يسوي بين الدرجات ويتخطى الحواحز العقبات.
अज्ञात पृष्ठ