لا أدري ... إلا أنني أريد أن أنفس بها عن صدر مثقل بالآلام، أو لعله ضعف مني اختلط بأمل مستطيل دفين، وهو أن تكون هذه القصة رسالة حب إلى الذي تدور عليه قصتي وله فؤادي كله، ومعه هواي، وإليه على أجنحة الخيال تأويبي ... •••
وقع الذي وقع عندما كنت في الثامنة عشرة عقب خروجي من المدرسة، إذ تعثر أبي في علة قاسية، فنصح له الطبيب بالمقام فترة من الدهر على ضفاف البحر في سياحة بحرية، فانتوينا أنا ووالدتي أن نذهب معه، وما كنت أدري والله أن الحياة كلها معلقة على تلك الطوافة، رهن بتلك السفرة النائية ...
وأبحرت بنا الباخرة في الخامس من شهر أغسطس، وقد حفظت ذلك التاريخ، ومثله في تاريخ الحياة وشؤونها لا ينسى ولا يمحى من الذاكرة، لأنه اليوم الذي كان فيه لقائي ... به!
ولم يكن في لقائنا غرابة، بل كما يتلاقى الناس على صدور الجاريات في البحر، ويحدوهم الجلوس معا إلى موائد الطعام، والخروج إلى ساحة الجارية للنزهة واستشراف البحر المترامي.
ولكني منذ أول شدة بيده على يدي، رحت ناسية الزمن، أعيش في أفق متورد مزدهر، لا يقاس فيه الزمن بالساعات وأجزاء الساعات، وإنما باللقاءات على سطح الباخرة والاحتجابات، وبخطران شبحه على العين، وغيابه عن الناظر، فكان هذا هو الحب الذي يقول الناس عنه إنه يقع من أول نظرة، وما كان في فؤادي منه جرى مثله في مسرى الكهرباء في أضواء نفسي.
ولم تكد الباخرة تلقي مراسيها فترة حتى تمت بيننا الخطبة، وتمنع أبواي في مبدأ الأمر، وكان هذا التمنع أمرا مألوفا، لأنني كنت ابنتهما الوحيدة العزيزة الغالية، ولم يكونا يعلمان قليلا ولا كثيرا من أمره، على حين لا يكاد الجليس إليه يقضي بضع دقائق حتى يجده على أحب ما يكون أدبا وخيرا ورقة. وكان في ذلك العهد يشتغل وكيلا لمصنع وطيد كثير الشهرة، فذهب أبي من ساعته فتحدث إلى أصحاب المصنع وعاد إلينا مسرورا راضيا عن الخطبة قرير عين، وأغرى أمي بالقبول وهي في بكاء ودموع ...
واها لتلك المسكينة ... لقد كانت تطمع في أن تظفر لي بزواج كزواج الأميرات، لولولعها بالأبهة والبذخ وعيش الترف، ولكن ارتقابها الظهور في حفلة القران كأم العروس وتجملها بأبدع الثياب، وتهاديها رافلة في الدمقس والحرير، خفف بعض ألمها، وهون عليها بعض الأسف الذي كانت تجده في أعماقها.
وانثنت أخيرا تقول: على بركة الله إذن يا بنية، فلنعج على أكبر المدائن لنبتاع جهازك، ففعلنا، وتركنا أبي يتم سياحته في البحر وذهبنا نحن ننفق الكثير من المال ونبتاع خير ما نجده من النفائس والمطارف.
وكذلك انقضى الصيف، وفي نهاية شهر سبتمبر عدنا من سفرنا، وكنت أنا وهو نريد أن يتم الزاوج في نوفمبر، ولكن أمي كانت تود أن نستأني، فنترك الزفاف إلى أوان الربيع، إذ كانت تكره العجلة في كل شيء وتحب أن تجعل زفافنا باهرا وتعد له أكبر المعدات، وتحيله حديث المدينة وأهلها.
ولكنه كان عليه ملهوفا فلم تكن من حيلة للتأجيل. فحددنا لحفلة الزواج الثالث من ذلك الشهر، وأخذت المعدات تعد في عجلة لذلك اليوم المنتظر والفرحة الموعودة، وحالت المجامع والحفلات والمآدب بيننا وبين الاستمتاع بالخلوات، حتى لقد ذهب ذات مرة يقول ونحن عائدان من أحد المراقص: ما قولك يا فاتنة في الخروج إذا بكر الصبح على الجواد إلى نزهة وحدنا في معارج الغياض؟
अज्ञात पृष्ठ