قال: شكرا شكرا ...
وانصرف مسرعا لا يلوي على شيء ... •••
وكذلك جعل يجيء بانتظام، وراحت صديقتي تحدثنا بأخباره، قالت: إن أباه شيخ كبير في بلد صغير بسواد الريف، وقد نشأ الغلام وحيدا من الخلان في كل بلدة، وأحسبه تعثر في علة فاستطالت العلة به عاما كاملا.
قلت: لا عجب إذا هو اليوم بدا ناحلا واهي البدن.
قالت: أظنه قد عوفي من زمان بعيد وابل، ولكنه في الحق غلام عجيب، بل دودة كتب، كثير القراءة، مكب على العلم. وإن كان أهله يقولون إنه يقرأ كتبا لا يخلق بمثله أن يتناولها ... حقا إنه لغلام حساس شفاف العاطفة.
قلت: إنه ينظم شعرا.
قالت: يا عجبا! أشاعر هو أيضا؟ ولم تكن صديقتي تعرف ذلك عنه. ولكنه في تلك الأصائل الثلاثة التي قضاها يتدرب على الأداة الكاتبة عندنا لم يصنع شيئا سوى كتابة القصائد، وكانت القصائد تكتب لي، فقد جعل يجيء إلي بها في خجلة وحياء، فكنا نجلس على المتكأ معا ويروح هو ينشدنيها بنفسه، وكان مجلسنا أبدا هادئا في خلوة رقيقة على نسائم الأصيل إبان الربيع، ولم أكن أجد رغبا في الخروج من البيت، ولا أرتقب زائرا يزور، ولم يكن علي عمل أؤديه حتى تحين الخامسة فأنهض لتهيئة العشاء لزوجي قبل رجعته، ورحت أجد مسرة النفس في الخلوة إليه، والاستماع إلى شعره وقصيده الحافل بوصف الجمال وشكاة الحب، ووقف عند بيت يصف فيه لمسة يد المليكة الفاتنة فألقى يده على يدي ولم أكن طيلة الحياة بالإنسانة المجنونة العاطفة، الخلابة الهوى، فأردت أن أظل على خلقي هذا وعهدي، فاجتذبت يدي في رفق منه، فتركها غير ملحاح في إمساكته، ولكنه ظل يرنو إلى يدي بين فترة وأخرى، فعل الطفل الحزين السليب من شيء حلو كان يطلبه فحيل دونه.
والتهب خدي في ذلك المساء عندما غادرني غلامي الجميل، ووقفت أتطلع إلى وجهي في المرآة ... يالله من بريق عيني وسطع نظرتي.
في الحق ما شهدت لهما يوما ذلك البريق الساطع، ولا عجب إذ راح زوجي يقول عندما عاد في ذلك المساء: أنت تلوحين مشرقة الليلة يا طفلتي العجوز! أكنت في السينما؟
فابتسمت لنفسي ورحت أوازن بين مسرة رؤية مشاهد الصور المتحركة وبين خفة الفرح الذي أجده، فتضاءلت تلك المسرة في عيني وعفتها بجانب هذه الرعدة المسكرة التي تسري مني في أنحاء البدن.
अज्ञात पृष्ठ